أفلام عربية في فينيسيا: ارتباكات أولى

10 سبتمبر 2018
من "دشرة" للتونسي عبد الحميد بوشناق (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يقيم "اتحاد نقّاد السينما الإيطالية" تظاهرة سنوية على هامش "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" بعنوان "أسبوع النقاد". تُعقد هذا التظاهرة المهمّة منذ 33 عامًا. هي ليست مُنفصلة كليًا عن المهرجان، ولا تُقام بعيدًا عن فعالياته، كما يحدث في مهرجانَي "كانّ" وبرلين، وفيهما "أسبوع النقّاد" أيضًا. "مهرجان فينيسيا" يحتضن التظاهرة، واضعًا إياه ضمن جدول عروضه الرئيسية، وتُعرض أفلامه في القاعات نفسها للمهرجان.

يُشرف على اختيار "أسبوع النقّاد" 5 أعضاء من الاتحاد، إلى جانب رئيسه. يمنح جائزة "أفضل فيلم" بناء على اختيار الجمهور، وجائزة "أسد الأسبوع" لأفضل مُخرج واعد. هدفه إلقاء الضوء على الأعمال الأولى للمخرجين الشباب، وتعريف المُنتجين والعالم بإنتاجاتهم وأسمائهم. أوليفييه أساياس وعبد اللطيف كشيش وغيرهما شاركت أفلامهم في التظاهرة، التي تعرض أيضًا 10 أفلام إيطالية قصيرة حديثة الإنتاج لمخرجين شباب، قبل بداية كلّ عرض من العروض الرئيسية.

7 أفلام مُشاركة في مسابقة "أسبوع النقاد للأفلام الطويلة"، المنعقد هذا العام في إطار الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، بالإضافة إلى فيلمي الافتتاح والختام. في سابقة لافتة للانتباه، اختار مسؤولو الأسبوع 3 أفلام عربية، اثنان منها في المسابقة الرسمية: الروائي الطويل سوداني بعنوان "أكاشا" لحجوج كوكا، والوثائقيّ "لسّه عم تسجِّل" للسوريَّين غيَّاث أيوب وسعيد البطل. ويُختتم الأسبوع بالتونسي "دشرة" لعبد الحميد بوشناق (خارج المسابقة).

"أكاشا" مليء بأحداث ساخنة وساخرة وجميلة وحزينة. يتمحور أساسًا حول قصة حب استثنائية مُلتهبة، ذات طابع إنساني تحدث زمن الحرب. لكنها حرب مُتخيّلة تدور رحاها في السودان حاليًا. عدنان (كمال رمضان) ثوريٌّ، يُعتَبر من أبطال الحرب. مُولع بحبّ لينا (إكرام ماركوس)، التي تتحمّل غيابه طويلاً. عندما يتأخر عدنان في العودة إلى معسكر الجيش، يأمر القائد بلوز (عبد الله النور) بإطلاق مجموعة "أكاشا" للقبض عليه وعلى الجنود المُتغيّبين واعتقالهم. بعد سلسلة مغامرات طريفة تستمرّ 24 ساعة، يتفادى عدنان وصديقه إلقاء القبض عليهما، وفي الوقت نفسه يُجمَع شمل عدنان ولينا.




في فيلمه الروائي الأول هذا، يحاول حجوج كوكا (1976)، صانع الوثائقيّ المتميّز "إيقاعات الأنتوف" (2014)، أن ينسج قصّة إنسانية عن كيفية عيش الناس زمن الحرب، وعن الرغبة في الحياة ومواصلتها. كما أنه يكشف جانبًا آخر بالغ الأهمية عن كيفية مضي الحياة، وعن الأيديولوجيا المسيطرة على عقلية المُتمرّدين في المناطق الخاضعة لهم. إنه تجربة روائية أولى لمخرجه، سلبياته أكثر من إيجابياته.

"لسّه عم تسجِّل" أول عمل لغيَّاث أيوب وسعيد البطل. سعيد شاب مُهتمّ بالسينما. يحاول تدريس أصولها وقواعدها لشباب هواة في الغوطة الشرقية، رغم صعوبات جمّة يواجهونها، تبلغ أحيانًا مرتبة الاستحالة. ميلاد صديق سعيد، يعيش في دمشق بأمانٍ نسبيّ. بعد إنهائه دراسة الفنون، يُقرّر مغادرة دمشق للّحاق بسعيد المُقيم في الحصار. هناك، يؤسّسان معًا "محطّة راديو" واستديو للتسجيلات. معظم الوقت يُصوّران بالكاميرا كل شيء.

تدور أحداث الفيلم بين عامي 2011 و2015، بين دمشق ومنطقة دوما في الغوطة الشرقية تحديدًا. كعادة غالبية الأفلام التي ترصد أحداث الربيع العربي، يقع المخرجان في فخّ الولع بالمادة الضخمة التي يُصوّرانها، والرغبة في قول كلّ شيء، بوضعه في إطار قصّة غائبة وغير مقنعة، إذْ تظهر كتبرير لـ"حشر" المادة الوثائقية المُصوَّرة. سيمرّ الفيلم مرور الكرام، وسيبقى منه في الذاكرة القليل جدًا من الأحداث التي ينقلها سينمائيًا بشكلٍ مقنع وملهم ومؤثر، رغم وقوعه في فخّ الإعجاب بالمادة المُصوَّرة.

أما "دشرة" فيُعتبر، من دون مُبالغة، من أقوى أفلام الرعب والإثارة وأهمّها في تاريخ السينما العربية. مغامرة لمخرج يُقدِّم عمله الأول المنتمي إلى نوعية صعبة لها تقاليدها الراسخة في تاريخ السينما، ونادرة وغير مطروقة في السينما العربية. فنيًا وبصريًا وتنفيذيًا، يرتقي فيلم بوشناق فعليًا إلى مصاف الإنتاجات العالمية المُتمرّسة ـ مُنذ عقود ـ في هذه النوعية. لكن الغموض، الذي يُميّز هذا النوع السينمائيّ، يُعيبه، خاصة مع اقترابه من منتصفه.

عبد الحميد بوشناق ناجحٌ في إبداع فيلم رعب وإثارة، إخراجًا ومونتاجًا وإنتاجًا. لكن كتابته السيناريو سبب ضعفه في مواقع عديدة لا سيما البداية والنهاية. تنقصه المصداقية ليكون أكثر إقناعًا مما هو عليه. خاتمته محتاجةٌ إلى مزيد من العمل والإحكام، كي لا تبقى في تلك الصورة الساذجة، التي أفقدته مكامن قوته وغموضه. لا حاجة إلى الكشف عن شخصية الرجل الغامض، ولا ذلك المشهد الختامي المُنجَز بطريقة هوليوودية فجّة. نقطة ضعف أخرى: قصّة الصحافية ومُذكّراتها التي تظهر فجأة، علمًا أنها (الصحافية) تكون ـ في النهاية ـ المجنونة "مُونجيا".

المشاركون في تأدية الشخصيات يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا، لكن أداءهم "لا غبار عليه" غالبًا. مشاهد عديدة ممتعة للغاية ومحكمة الصُنعة بصريًا، خصوصًا مع الانتقال إلى قرية "دشرة"، والتصوير في غابة مفتوحة وسط الغيوم.

لكونه أول روائي له، فإن "دشرة" يَعِد بمُخرج ذي رؤية بصرية لافتة للانتباه، بينما شغله في المونتاج والسيناريو بحاجة إلى صقلٍ، فهناك تفاصيل تتطلّب ضبطًا. التخلّي عن تفاصيل معينة ضروريّ، كربط الحكاية بقضية خطف أطفال واختفائهم في تونس. لكن تميّزه في إطار أفلام الرعب صعبة التنفيذ يغفر لعبد الحميد بوشناق هذا كلّه.
المساهمون