تهدد أزمة الكهرباء المستفحلة في بريطانيا وأوروبا بإثارة خلافات عميقة بين دول الاتحاد الأوروبي، وربما تنامي الاحتجاجات الشعبية في شوارع المدن الكبرى، وإضعاف الأحزاب التقليدية الحاكمة في القارة، وإفلاس العديد من شركات الكهرباء.
وحتى الآن أفلست 17 شركة في بريطانيا، كان آخرها إفلاس أربع شركات أول من أمس الأربعاء. وتعد إمدادات الغاز الطبيعي في بريطانيا وأوروبا وغلاء أسعاره السبب الرئيسي وراء أزمة الكهرباء التي تتفاعل في أوروبا وبريطانيا، لتضاعف من تداعيات جائحة كورونا على النمو الاقتصادي ورفاهية الأسر والأفراد في القارة العجوز.
ويرجع محللون جذور الأزمة إلى خمسة عوامل رئيسية، وهي تراجع حجم الإمدادات الروسية لدول القارة الأوروبية والتحولات العالمية في سوق الغاز العالمي، وزيادة الاستهلاك في الصين، وارتفاع الأسعار في آسيا وتراجع إنتاج الغاز الطبيعي في بريطانيا وأوروبا، والنزاع السياسي بين أوكرانيا وروسيا حول ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، وذلك إضافة إلى تأثير النزاع حول الصحراء بين الجزائر والمغرب الذي أدى إلى توقف جزء من صادرات الغاز الجزائرية إلى إسبانيا.
وسط هذه العوامل لا يستبعد محللون أن يكون لنقص الغاز وأزمة الكهرباء تداعيات خطيرة على الاستقرار السياسي في العديد من الدول الأوروبية، في حال اشتداد برودة الشتاء، وربما تضطر دول الاتحاد الأوروبي لدفع مبالغ مالية باهظة لدعم فاتورة الكهرباء للعديد من مواطني الدول الأوروبية.
وفقاً لبيانات "يورو ستات" تعتمد أوروبا على الغاز الطبيعي في تلبية 20% من احتياجات توليد الطاقة. ومعظم هذه الإمدادات تستورد من الخارج، وتحديداً من روسيا عبر شركة "غاز بروم" الروسية، أكبر الشركات المنتجة للغاز الطبيعي في العالم .
ويرى محللون أن الغاز الطبيعي في أوروبا تحول خلال السنوات الأخيرة من سلعة استهلاكية إلى "سلعة سياسية" تستخدم في الصراع العالمي، خاصة بين بروكسل وموسكو من جهة، وبين موسكو وواشنطن من جهة أخرى.
وحتى الآن توجه أصابع الاتهام في أزمة النقص بالغاز الطبيعي إلى الرئيس فلاديمير بوتين، ويتهمه بعض قادة أوروبا بأنه يستخدم الغاز الطبيعي كسلاح للضغط على دول الاتحاد الأوروبي، حتى يجبرها على الرضوخ لمطالب بلاده.
ووفقاً لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، يرى بعض قادة أوروبا أن روسيا قامت عمداً بخفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا خلال الشهور الماضية للضغط على المفوضية الأوروبية، حتى توافق على إجراءات الترخيص لأنبوب "نورد ستريم2" الذي يمر تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا، وهو خط تم اكتماله ولكن تشغيله متوقف بسبب خلاف دول الاتحاد الأوروبي حول منح ترخيص التشغيل.
من جانبه، يرى بوتين أن الانتقادات الأوروبية الموجهة لروسيا ليست واقعية، وأن دافعها سياسي، وأن السبب الرئيسي في خفض إمدادات غاز بروم يعود إلى أن "غاز بروم" كانت تعكف على ملء خزانات الاحتياطي الروسي من الغاز الطبيعي، كما أن أزمة الغاز الأوروبي تعود إلى تراجع شحنات الغاز المسال التي كانت تأتي لأوروبا من الولايات المتحدة.
لكن معظم خبراء الطاقة يرون أن خفض الإمدادات الروسية هو السبب الرئيسي وراء أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا. وكان المدير العام لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، قد قال في تصريحات إن روسيا يمكنها زيادة الإمدادات إلى أوروبا بنسبة 15% إذا رغبت في ذلك.
أما السبب الثاني، فهو التغيرات التي حدثت في سوق الطاقة العالمي، والتي رفعت من معدل شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا بسبب الأسعار المرتفعة التي دفعتها الشركات الصينية ودول جنوب شرقي آسيا لشركات الغاز الصخري المسال الأميركية.
وكانت بعض هذه الشحنات تتجه إلى الأسواق الأوروبية في السابق، وبالتالي تقلل من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. كما أن شركات الغاز الصخري الأميركي وجهت كذلك بعض شحناتها إلى دول مثل البرازيل والأرجنتين التي واجهت أزمة جفاف خلال العام قللت من توليد الكهرباء من الأنهار والمساقط المائية. وذلك وفقاً لنشرة آرغوس الأميركية.
يذكر أن ارتفاع معدل الدخول والرفاهية في الصين رفع من مستويات استهلاك الكهرباء في المدن، وأجبر الصين على زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، والرجوع إلى زيادة واردات الفحم الحجري لمحطات توليد الكهرباء خلال العام الجاري.
على صعيد أزمة جزيرة القرم وما تلاها من توتر سياسي، يلاحظ خبراء أن ما حدث من تغيير جيوسياسي في أوروبا في أعقاب تفكك الإمبراطورية الشيوعية واستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة التي أصبح بعضها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، سعت موسكو إلى خفض حجم إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
وفي بداية القرن الجاري قررت شركة غاز بروم، التي تحتكر تصدير الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، تنويع شبكة أنابيب الغاز العابرة إلى القارة وخفض الاعتماد على أوكرانيا، خاصة في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم التي كانت تتبع لأوكرانيا. وتبعاً لذلك أنشأت خطوطا جديدة لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر بيلاروسيا وبولندا.
وفي أعقاب زيادة التوتر بين موسكو وكييف في العام 2014 وتطوره إلى عقوبات اقتصادية أوروبية أميركية ضد روسيا، عكفت شركة غاز بروم على إنشاء خط أنابيب "بلو ستريم" الذي يمر تحت البحر الأسود. كما أنشأت خط أنابيب "تركيش ستريم" الذي اكتمل في العام الماضي، ويمر هو الآخر تحت البحر الأسود إلى تركيا، ثم أنشأت أخيراً خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يمر تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا. وترى العديد من الدول الأوروبية أن خطوة تحويل خطوط إمدادات الغاز الروسي من الأراضي الأوكرانية تستهدف إضعاف الاقتصاد الأوكراني الذي يعتمد في جزء من إيرادات العملة الصعبة على الرسوم المحصلة من عبور الغاز الروسي إلى أوروبا.
ومن بين العوامل الأخرى التي أدت إلى نشوء أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا، حسب تعليقات زعماء أوروبيين، خفض شركة غاز بروم لإمدادات الغاز الطبيعي الخاصة بخزانات الاحتياطي الاستراتيجي التي تسيطر عليها في أوروبا. ولدى شركة غاز بروم، حسب بيانات "يورو ستات"، 8 خزانات في أوروبا تستخدمها لتلبية الإمدادات في لحظات ذروة الطلب على الغاز مثل برودة الشتاء القاسي.
على صعيد الإنتاج الأوروبي من الغاز الطبيعي، فقد تراجع الإنتاج بمعدل كبير من حقل خرونينجن الهولندي للغاز الذي قررت هولندا إغلاقه في العام المقبل بسبب مخاوف حدوث زلزال في البلاد. كما تراجعت كذلك إمدادات الغاز الطبيعي من حقل الشمال الذي حول بريطانيا من مصدر للغاز الطبيعي إلى مستورد.
يضاف إلى هذه العوامل الخلافات السياسية بين الجزائر والمغرب حول السيادة على الصحراء الغربية. وقد أثر هذا الخلاف على تدفق الغاز الجزائري إلى أوروبا. وكانت الجزائر قد أوقفت في بداية الشهر الجاري تدفق الغاز على أنبوبها الذي يمر عبر المغرب إلى كل من إسبانيا والبرتغال. وتجري اتصالات حالياً لزيادة سعة التصدير الجزائري المباشر للغاز الطبيعي إلى إسبانيا عبر أنبوب "ميد غاز بابيبلاين" أو ما يعرف بخط "غاز البحر المتوسط". وذلك وفقاً لما ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" أمس الخميس. ولكن إلى حين ذلك فربما ستتواصل أزمة الكهرباء في كل من إسبانيا والبرتغال. وتلبي الجزائر نحو ثلثي إمدادات الغاز الطبيعي إالتي تستهلكها أسواق إسبانيا والبرتغال.
على صعيد بريطانيا التي باتت تستهلك حالياً كميات من الغاز أكثر من الفحم الحجري، فإن بيانات الحكومة البريطانية تشير إلى أن السوق البريطانية تستورد حالياً نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي من الخارج، بعد تراجع احتياطات بحر الشمال وتعثر بناء محطة لتوليد الطاقة الذرية مع الصين. ويرى محللون أن بريطانيا تعاني من أزمة التخزين الاحتياطي للغاز الطبيعي خلافاً للتخزين الموجود في دول القارة الأوروبية. وذلك ببساطة لأن بريطانيا تعتمد على موردين مضمونين، وهما النرويج والغاز المسال من دولة قطر.