ارتفعت الأصوات في الجزائر، مطالبة بتحرير الاقتصاد من الهيمنة الفرنسية، مستثمرة في الجمود الذي تعيشه العلاقات بين باريس والجزائر، إذ لا يزال بلد المليون شهيد يتناقل أخبار السنوات الطويلة من الاستعمار الفرنسي الذي انتهك الأرض وسكانها، ولم يخفف الاستقلال من حدة النقمة المتناقلة من جيل إلى آخر.
وقلما تأثر التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين، بتقلب العلاقات السياسية بين البلدين لطيلة عقود طويلة، إلا أن التصادم الأخير بين باريس والجزائر يبدو أنه لن يكون كالسابق، إذ تبدي الجزائر رغبة قوية في "معاقبة" فرنسا تجاريا واقتصاديا بمراجعة المعاملة "المميزة" التي ظل يحظى بها "مستعمر الأمس" خاصة في العقدين الأخيرين، مقابل دعمه لنظام الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
أصل الهيمنة
ومنذ خروجها من الجزائر سنة 1962، ظلت فرنسا شريكا تجاريا واقتصاديا، مهما بل ورئيسيا للجزائر، حيث بقيت باريس الممون الأول للجزائر بالسلع والخدمات، والمستثمر المباشر الأول، مستفيدة من التاريخ الذي يربط البلدين وتقاطع مصالح الأنظمة بين البلدين، إلى غاية 2013 حين أزاحت الصين فرنسا من على رأس قائمة الدول الممونة للجزائر بالسلع والخدمات.
وبلغة الأرقام، كانت فرنسا الشريك التجاري الثاني للجزائر سنة 2020، بصادرات بلغت 3.6 مليارات دولار ما يمثل 10.6% من واردات الجزائر، خلف الصين بـ 5.7 مليارات دولار، ومتقدمة على إيطاليا بـ 2.4 مليار دولار وألمانيا 2.2 مليار دولار، فإسبانيا 2.1 مليار دولار.
فيما تبقى الاستثمارات الفرنسية المباشرة ضعيفة، فحسب الأرقام التي تحصّلت عليها "العربي الجديد" من الوكالة الجزائرية لدعم الاستثمار، لم تتعد الاستثمارات الفرنسية 2.3 مليار دولار، تمثل 423 شركة أكبرها شركة "توتال" النفطية، "سانوفي" للأدوية و"لافارج" للإسمنت، و"رونو" لتجميع السيارات، بالإضافة لبنوك "بي أن بي باريبا" و"سوسيتيه جنرال" و"بنك فرنسا".
كانت فرنسا الشريك التجاري الثاني للجزائر سنة 2020، بصادرات بلغت 3.6 مليارات دولار ما يمثل 10.6% من واردات الجزائر
ولفهم أصل الهيمنة الفرنسية على المشهد الجزائري خاصة في شقها الاقتصادي، يقول الاقتصادي الجزائري، حمادي عبد الحكيم، إن "الاستغلال لثروات الجزائر من طرف فرنسا والامتيازات التي تنفرد بها شركاتها فوق التراب الجزائري كلها خاضعة لعقد تم إبرامه بطريقة خاصة بين الشعب الجزائري والدولة الفرنسية المعروفة بـ "تصريح 19مارس/آذار 1962" والذي تم استفتاء الشعب الجزائري عليه في يوليو/ تموز من نفس السنة".
وتابع: "في ورقة الاستفتاء نجد هذه العبارة هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة، متعاونة مع فرنسا، حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس/آذار 1962؟، وهنا نفهم أننا أمام استقلال مشروط بتعاون مع فرنسا حسب الاتفاق الذي وثق عند الأمم المتحدة."
وأضاف حمادي في تصريح لـ "العربي الجديد" إن "هذا العقد تنفرد به فرنسا وحدها دون الإتحاد الأوروبي ودون غيره من دول العالم الأخرى، ما يجعل الجزائر تعيش هيمنة فرنسية وتضييقا على نشاطها ونشاط أبنائها الاقتصادي، ولا يمكن التخلص من هذا العقد الموثق لدى الهيئة الدولية الأمم المتحدة إلا بالطريقة نفسها التي تم بها هذا العقد وهي الاستفتاء الشعبي الجزائري الذي يريد نسخ هذا العقد، سواء عبر الشعارات المرفوعة في الحراك الشعبي، عندما كان ينادي الشعب بـ "الاستقلال" أو الآن بالضغط على الحكومة لقطع الامتيازات التي تنالها فرنسا في الجزائر منذ عقود."
وتوترت العلاقات الجزائرية الفرنسية بشكل غير مسبوق، في أعقاب قرار باريس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين. وازدادت تأزماً بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اتهم فيها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بأنه "يعيش ضمن نظام صعب"، في تلميح إلى أن تبون محاصر من قبل الجيش.
كما شكك ماكرون في وجود كيان للأمة الجزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، ما دفع بالرئيس الجزائري لاستدعاء السفير الجزائري بباريس ومنع الأجواء الجزائرية على الطائرات الحربية الفرنسية المشاركة في عملية "برخان" شمال مالي.
احتكار واستغلال
وتحظى الاستثمارات الفرنسية بامتيازات لا تتلقاها أي دولة أخرى، وخاصة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، مع دخول شركات فرنسية عملاقة السوق الجزائرية من دون شراكة مع رؤوس أموال جزائرية، عكس ما ينصّ عليه قانون الاستثمار الجزائري، الذي يلزم الأجانب بإشراك طرف جزائري بحصة 51 في المائة في أي مشروع يقام في البلاد.
وهو ما حصل مع ثلاثة مشاريع فرنسية كبرى، أنشئت في الجزائر في السنوات الأخيرة، ولا تزال الأسئلة تطرح حولها.
وأول هذه المشاريع هو المتعلق بشركة "توتال" النفطية في الجزائر، التي حصلت سنة 2016 على صفقة لإنشاء مصنع ضخم شمال غرب الجزائر، مختص في تكرير النفط، وإنتاج الزيوت بغلاف مالي قارب المليار الدولار، حسب مصادر لـ"العربي الجديد".
وهو المشروع الذي ظل الطرف الجزائري فيه مجهولاً، رغم إصرار الحكومة الجزائرية على أن "سوناطراك" هي التي ستحوز 51 في المائة من المشروع، وهو ما تؤكده الشركة النفطية الجزائرية، إلا أن هذا المشروع لم يدخل في ميزانية استثماراتها المبرمجة بين عامي 2017 و2022.
ولعل أكبر مشروع فرنسي أثار حفيظة الرأي العام الجزائري، هو مشروع تجميع السيارات من علامة "رينو"، المُدشن سنة 2014 برأس مال فرنسي بالكامل، بلغ مليار يورو أي ما يقارب 1.4 مليار دولار، على أن يجمّع 150 ألف سيارة سنوياً.
ومنذ افتتاحه شغل هذا المصنع الشارع الجزائري، وذلك لغلاء السيارات المركّبة فيه، وعدم رفعه لنسبة الإدماج المتعلقة بالقطع المصنعة محلياً، والناجي الوحيد من مقصلة القضاء الجزائري الذي أغلق جميع مصانع تجميع السيارات.
وحسب رئيس جمعية وكلاء السيارات متعددي العلامات، يوسف نباش، فإن "مصنع رينو هو أكبر عملية احتيال في الجزائر، الفرنسيون اشترطوا أولاً اختيار مكان إقامة المشروع، ثم اشترطوا عدم إدخال أي شريك جزائري خوفاً على التكنولوجيا الفرنسية، والأخطر من ذلك أن رينو وعن طريق الرئيس السابق فرنسوا هولاند اشترطت عدم تصدير السيارات المركبة من الجزائر حتى لا يتضرر مصنعهم في طنجة المغربية، الذي يمدّ السوق الأفريقية بالسيارات".
تحظى الاستثمارات الفرنسية بامتيازات لا تتلقاها أي دولة أخرى، وخاصة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة
ويلفت نباش بحديثه لـ "العربي الجديد"، إلى أن "المصنع وبعد 7 سنوات لا يزال يجمع سيارات فرنسية 100 في المائة، رغم أن القانون الجزائري يلزم العلامات العالمية برفع نسبة الإدماج في السيارات المركبة إلى 40 في المائة بعد السنة الثالثة من إطلاق المشروع، وللأسف المصنع الفرنسي لا يزال يحوّل أموال الجزائريين إلى الخارج بطرق قانونية".
وتضيف المصادر، أن المشروع الثالث الذي نجحت باريس في إقامته من دون شراكة جزائرية، هو مصنع "سانوفي" لإنتاج الأدوية، وخاصة أدوية الأمراض المزمنة كالسكري والضغط الدموي، بحجم استثمار فاق 500 مليون دولار، ورأى المصنع النور سنة 2016.
تغير المعطيات
وسبق الخلاف الجزائري الفرنسي، إبداء الجزائر منذ وصول عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم نهاية 2019، نية في كبح الهيمنة الفرنسية على المشهد الاقتصادي والتجاري، من خلال فسخ عقود شركات فرنسية ظلت تحتكر الخدمات، كشركة "سيال" التي ظلت تسير توزيع المياه لأكثرمن 15 سنة، وشركة "مترو باريس" التي سيرت "مترو الجزائر" لـ 10 سنوات، وإلزام شركة "لافارج" بالتوجه نحو تصدير الإسمنت، بالإضافة إلى مراجعة شروط استيراد القمح الذي تحتكر فرنسا تدفقه نحو الجزائر بقرابة 1.6 مليار دولار سنويا.
ويحمّل أستاذ الاقتصاد في جامعة البليدة، فارس مسدور، من سماهم المسؤولين الجزائريين النافذين في السياسة والاقتصاد سابقاً مسؤولية هيمنة فرنسا على السوق، مضيفاً في تصريح لـ "العربي الجديد" أن "هؤلاء المُوالين لفرنسا يسهّلون دخول شركات فرنسية، بعضها مفلس، وفي المقابل يستفيدون ماديا".
ويقول مسدور: "إنهم يعملون من دون ضجيج في خدمة فرنسا". ويضيف أن "الشركات الفرنسية هرّبت مليارات الدولارات من الجزائر منذ 2005، كأرباح وتضخيم للفواتير، رغم أن القوانين الجزائرية تمنع تحويل الأرباح كاملة نحو الشركات الأم وتلزم باستثمار نصف الأرباح في الجزائر". ويتابع: "حان الوقت لإعادة رسم الاقتصاد وفق ما يخدم الجزائر والجزائريين وليس وفق ما يخدم فرنسا وأتباعها".