قبل ظهور كورونا كانت التوقعات الاقتصادية تشير إلى إفلاس عدد قليل من الدول غير القادرة على سداد ديونها الخارجية، وكانت الأنظار تتجه إلى لبنان والأرجنتين وجزر المالديف وزامبيا والإكوادور ورواندا وغيرها من الدول التي شهدت أزمات مالية حادة في السنوات الأخيرة، حيث تراجعت إيرادات النقد الأجنبي لديها بشدة، وبالتالي لم تعد لديها القدرة على حماية عملتها الوطنية، وقبلها سداد مستحقات الدائنين الدوليين، بمن فيهم أصحاب السندات.
وقبل ظهور كورونا كانت الأسواق المالية والحكومات تتخوف، من وقت لآخر، من انفجار أزمة الدين العام العالمي، وكيف أن الأزمة باتت تشكل تحدياً أمام الحكومات المختلفة، خاصة مع تزايد عجز الموازنات العامة وتسارع وتيرة الاقتراض، وكيف أن أزمة الدين يمكن أن تسبب أزمة مالية واقتصادية عالمية على غرار أزمة العام 2008.
وكان التركيز ينصب حينئذ على ديون الاقتصادات الناشئة، خاصة دول أفريقيا وأميركا اللاتينية، التي ارتفعت من تريليون دولار في عام 2005 إلى 3.2 تريليونات دولار حتى نهاية الربع الأول من عام 2020، خاصة أن هذه الديون تعادل نسبة 114% من إجمالي الناتج المحلي للاقتصادات الصغيرة "متوسطة التطور" في العالم.
لكن بعد تفشي كورونا، فإن الحديث بات يدور عن احتمال إفلاس العديد من دول العالم وليس دولا نامية بعينها، وذلك في ظل الخسائر الفادحة الناجمة عن انتشار الوباء، والتي قدّرها صندوق النقد الدولي قبل أيام بنحو 28 تريليون دولار، في حين قدرت خسائر الاقتصاد الأميركي وحده بنحو 16 تريليون دولار، أو ما يقرب من 90% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي.
كما أن هذه الخسائر مرشحة للزيادة في ظل القيود التي عاودت بعض الاقتصادات الكبرى فرضتها لمواجهة الموجة الثانية من الجائحة وتزايد حالات الإغلاق، والالتزامات الضخمة المفروضة على الحكومات لمعالجة تأثيرات الوباء الصحية والاقتصادية والاجتماعية.
ولذا، وجدنا أن دولا كثيرة سارعت نحو طلب مساعدات عاجلة من المؤسسات المالية الدولية، واقتراض عشرات المليارات من الدولارات، خاصة من أبرز مؤسستين هما صندوق النقد والبنك الدوليان.
وأخرى سارعت نحو تسييل أصولها الخارجية والسحب من الاحتياطي الأجنبي. في حين سارعت دول نحو بيع أطنان من الذهب المودعة لدى بنوكها المركزية لتدبير سيولة تمكّنها من الإنفاق العام، في ظل تهاوي إيرادات الدولة، خاصة من قطاعات اقتصادية مؤثرة مثل السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين والاستثمارات المباشرة.
وسارعت دول أخرى نحو الاغتراف من البنوك المحلية والاقتراض بكثافة في ظل تهاوي إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم والأنشطة الاقتصادية.
في حين فضّلت دول الحلول السهلة، وهي طباعة مزيد من البنكنوت، حتى وإن أدى ذلك إلى زيادة معدلات تضخم الأسعار وركود الأسواق، فمشكلة التضخم وزيادة عجز الموازنة والدين العام تظل بسيطة وهامشية مقارنة بالكوارث الاقتصادية الأخرى للجائحة من إفلاس وتعثر وبطالة وفقر وانهيار اقتصادي وغيرها.
أمس، كشفت الأرقام عن أن الدين العام الحكومي في بريطانيا هو الأعلى في 60 عاما، حيث سجل الدين أعلى مستوى منذ عام 1960 عند 2.060 تريليون إسترليني، أي ما يعادل 103.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الولايات المتحدة، فإن التوقعات تشير إلى تجاوز الدين العام حجم اقتصادها في العام المقبل، وذلك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، بسبب زيادة الإنفاق الفيدرالي.
كما أن الدين العام الأميركي سيتضخم إلى نحو 195% من الناتج الاقتصادي للبلاد في 2050 وسيبلغ ضعفي الناتج الاقتصادي بحلول هذا العام، مقابل نحو 98% في نهاية 2020 و79% في 2019، وبالتالي سيصبح الدين العام أحد أبرز المشاكل التي تواجه صانع القرار في الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة.
وعقب إقرار حزمة الإنقاذ الثالثة التي تدور حول ألفي مليار دولار، سيزيد الدين العام وعجز الموازنة الأميركية إلى مستويات قياسية بعد ضخ نحو 6 آلاف مليار دولار في الأسواق وشرايين الاقتصاد خلال الشهور القليلة الماضية، للحيلولة دون انهيار الاقتصاد، وإفلاس الشركات الكبرى، وتفشي البطالة، وانتشار الفقر والجريمة.
يتكرر المشهد في اقتصادات كبرى، اليابان وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول التي قفزت بها معدلات الدين العام بها بسبب زيادة الإنفاق العام وتراجع الإيرادات وخسائر كورونا الفادحة التي فاقت بكثير أزمات سابقة مثل الكساد العظيم في العام 1929.
العالم في أزمة حقيقية قد تدفع العديد من دوله نحو الافلاس، فمن جهة تواجه الحكومات نقصا حادا في الإيرادات العامة، وخسائر فادحة جراء كورونا.
وفي نفس الوقت مطلوب منها سداد الرواتب، وزيادة الانفاق العام للحيلولة دون انهيار الاقتصاد وافلاس الشركات وتفشي البطالة.
والحكومات لم يعد لديها القدرة المالية على مواجهة كل تلك الاعباء خاصة مع ظهور الموجة الثانية من جائحة كورونا، ولم يعد لديها القدرة كذلك على تعظيم الايرادات وزيادة الضرائب والرسوم مع خسائر الشركات والأفراد المتواصلة جراء الجائحة.
إنها أزمة تتفاقم يوما بعد يوم مع التأخر في الوصول إلى لقاح فعال لوباء كورونا يضع حداً لهذا النزيف المستمر الذي يواجه كل اقتصادات العالم، بما فيها الاقتصادات الكبرى.