الزائر لتركيا هذه الأيام يلحظ أن شريحة كبيرة من المواطنين ضاقت ذرعاً بقفزات أسعار السلع والخدمات التي لا تتوقف يوماً واحداً، وأن الأتراك باتوا منزعجين بشكل كبير من تهاوي عملتهم، الليرة، مقابل الدولار، وأن معاناتهم زادت بشدة في الفترة الأخيرة بسبب زيادة الأسعار وقفزات التضخم التي أوصلت معدله لحاجز 21% في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
صحيح أن قطاعا كبيرا من الأتراك الذين تحدثت معهم يدركون أن التضخم بات ظاهرة عالمية لا تعد الحكومة التركية مسؤولة عنها، وأن التضخم في الولايات المتحدة تجاوز 6.8%، الشهر الماضي، وهو أعلى معدل منذ 38 عاما، وأن التضخم في منطقة اليورو هو الأعلى منذ ربع قرن، وأن هناك تضخما مرتفعا امتد للاقتصادات الكبرى في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا والصين والهند واليابان ودول الخليج وغيرها من الاقتصادات المختلفة، وأن هناك تضخما عالميا لأسعار الأغذية والوقود والنفط والغاز والعقارات والمواد الخام والسلع الوسيطة وأشباه الموصلات والسيارات وغيرها، لكن المؤكد أن قفزات الأسعار التي تشهدها الأسواق التركية أزعجت بشدة شريحة كبيرة من المواطنين الذين ينتمون للطبقتين المتوسطة والفقيرة، وأن الدخول باتت لا تغطي سوى نفقات الأيام الأولى من الشهر، وأن قفزات الأسعار امتدت لكل السلع حتى تلك التي ليس لها علاقة بقفزة الدولار، مثل الخضر والفواكه والملابس، وهي من السلع المنتجة محليا، كما امتدت لإيجارات وأسعار العقارات والمواصلات العامة والاتصالات وأجرة الطبيب والمحامي وغيرها.
ومن المؤكد أيضا أن المواطن التركي بات يُحمّل الحكومة جزءا كبيرا من الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، والتي أدت إلى فقدان الليرة أكثر من 50% من قيمتها مقابل الدولار خلال العام الجاري، وأن تحركات الحكومة لمعالجة الأزمة اتسمت بالبطء والتردد الشديدين، وأن خطة زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 4250 ليرة ليست كافية لامتصاص الاحتقان الشعبي المتنامي، وأن الحكومة تراهن على علاج طويل الأجل للأزمة الحادة، وأن هذا العلاج ليس مجربا من قبل ولم تختبره دولة قبل تركيا، إذ يعتمد على سياسة خفض سعر الفائدة وزيادة ضخ السيولة في الأسواق رغم ارتفاع التضخم واضطرابات سوق الصرف، وهو ما يخالف القواعد المطبقة في إدارة السياسة النقدية على مستوى العالم.
ومع مواصلة الليرة تهاويها دون وجود أفق قريب لعودة الاستقرار لسوق الصرف، فإن السؤال المطروح هو: "هل يقود تهاوي العملة المحلية إلى تهاوي الاقتصاد التركي ككل، وبالتالي الإتيان على النجاحات الاقتصادية التي حققتها حكومة العدالة والتنمية طوال السنوات العشرين الماضية؟ وهل الأزمة المالية الحالية يمكن أن تتحول إلى أزمة اقتصادية وإنتاجية تؤثر على القطاعات المختلفة بما فيها التصدير والصناعة؟
قبل الإجابة عن هذه السؤال يجب التأكيد بداية على أنه لا أحد هنا في تركيا ينكر الأزمات العنيفة التي مر بها الاقتصاد التركي خلال العامين الأخيرين، 2020 و2021، فقد تهاوت الليرة وتسارع تهاويها في الشهور الماضية لأسباب عدة، من أبرزها الإصرار على خفض سعر الفائدة، وتغيير قيادات البنك المركزي، وزيادة حدة المضاربات في سوق الصرف، والضغوط الشديدة التي تمارسها الأموال الساخنة وبنوك الاستثمار العالمية على صانع القرار التركي لعدم خفض الفائدة وعدم تطبيق سياسة الاستقلال الاقتصادي والمالي التي تحدث عنها أردوغان أخيرا.
ورغم أن تهاوي الليرة كان حادا، إلا أن شريحة من الأتراك ترى أن العديد من عملات دول العالم تهاوت في السنوات الأخيرة، فعربيا تهاوت عملات لبنان وسورية واليمن والسودان، كما شهدت عملات دول عربية أخرى تراجعات حادة، كما هو الحال في الجزائر والعراق وليبيا وتونس، وخلال أزمة كورونا شهدت عملات روسيا وجنوب أفريقيا والأرجنتين تراجعات حادة. حتى الدول التي استقرت عملاتها، فقد جرى ذلك عبر التدخل الإداري والمفتعل من قبل بنوكها المركزية، أو لجوء الحكومة لسياسة الاقتراض الخارجي الكثيف لحماية العملة من التراجع، وهو أمر مضر على المدى البعيد.
وقبل أزمة الليرة كانت هناك أزمة أعنف تواجه الاقتصاد التركي، منها تفشي فيروس كورونا وما أحدثه الوباء من تراجعات في إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، خاصة من قطاع الصادرات في العام الأول للازمة الصحية، ومن قطاعي السياحة والاستثمارات الأجنبية، وقبلها فرض العقوبات الأميركية والغربية المتواصلة على أنقرة، خاصة في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ولا أحد ينكر تعرض الاقتصاد التركي لانكماش حاد في عام 2020، لكن هذا حدث لاقتصادات كبرى، مثل الأميركي والبريطاني والفرنسي والياباني، بسبب الوباء، ولا أحد ينكر تعرض قطاع السياحة التركي لضربة في عام 2020.
لكن لا أحد في المقابل ينكر أن الاقتصاد التركي لا يزال ينمو بقوة رغم الظروف الصعبة التي مر بها، فقد حقق معدلات نمو سريعة فاقت مثلا 21.7% في الربع الثاني من العام الجاري، وهو من أعلى المعدلات في العالم، متجاوزا كل توقعات المؤسسات الدولية ومنها صندوق النقد والبنك الدوليين، كما تفوق على اقتصاد نظرائه في دول مجموعتي السبع والعشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وهناك توقعات بأن يتجاوز معدل نمو الاقتصاد التركي 10% خلال العام الجاري. كما نما هذا الاقتصاد بنسبة تقارب 2% في عام الوباء في الوقت الذي سجلت فيه معظم الاقتصادات الكبرى انكماشا في هذا العام، ونما قبل تفشي كورونا بمعدلات فاقت نسب النمو في دول منطقة اليورو.
تصاحب هذا النمو زيادة في إيرادات البلاد من النقد الأجنبي بمعدلات تفوق توقعات المؤسسات الدولية، فرغم أزمة كورونا حققت الصادرات التركية إيرادات فاقت 170 مليار دولار في عام 2020 الذي شهد جائحة كورونا مقابل 180 مليارا في 2019، كما أن هذه الصادرات شهدت قفزات في الفترة الأخيرة، ومن المتوقع أن تتجاوز 220 مليار دولار بنهاية العام الجاري.
ورغم الإغلاقات المستمرة وتعطل أنشطة السفر والطيران وفقدان السياحة التركية 65% من إيراداتها في عام الجائحة و40% في الربع الأول، إلا أن قطاع السياحة التركي استعاد نشاطه وحيويته في الفترة الأخيرة، والدليل نسب الإشغالات الفندقية العالية هذه الأيام، ولا تزال العقارات التركية محط أنظار المستثمرين والأفراد من دول الخليج والصين وإيران وروسيا، ومن المتوقع أن تتجاوز الاستثمارات الأجنبية التي سيتم ضخها في هذا القطاع 7 مليارات دولار خلال العام الجاري، وما زالت تركيا ملتزمة بسداد ديونها الخارجية دون أن تلجأ للاقتراض من صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات المالية الدولية.
نعم الاقتصاد التركي يعاني كما هو الحال في الاقتصادات الكبرى، لكنه لم يقترب من حالة الإفلاس والتعثر المالي كما تزعم بعض وسائل الإعلام العربية والغربية. والهجوم على الاقتصاد التركي هذه الأيام وتوقع انهياره أمر ليس جديد على الأتراك وصانع القرار التركي، فمنذ سنوات تشن وسائل إعلام عربية وعالمية معروفة هجوماً شرساً على هذا الاقتصاد لأسباب ربما تكون سياسية بالدرجة الأولى، مرة تزعم أن اقتصاد تركيا على وشك الانهيار، وأن البنوك التركية على وشك الإفلاس، وأخرى تؤكد أن جبل ديون الأتراك الخارجي يتضخم والبنوك في ورطة وثقة المستثمرين الأجانب تتدهور، وثالثة تؤكد، دون أن تقدم دليلا، على وجود رقم قياسي للقروض المصرفية المتعثرة، وأن شركات تركيا باتت تسدد ثمن فشل أردوغان في إدارة الملف المالي والاقتصادي وتدخلاته في إدارة السياسة النقدية والسيطرة على البنك المركزي، إلى آخر هذه المصطلحات التي دأبت وسائل الإعلام تلك على استخدامها من وقت إلى آخر.
ودون الاستناد إلى أرقام واقعية أو مؤشرات صادرة عن المؤسسات المالية الدولية، تزعم وسائل الإعلام تلك ومنذ سنوات أيضاً أن تركيا باتت غير قادرة على سداد ديونها الخارجية بعدما تجاوزت تلك الديون 400 مليار دولار، وأن احتياطي البنك المركزي التركي أوشك على النفاد رغم امتلاكه ما يقارب 127 مليار دولار واحتياطياً ضخماً من الذهب يتجاوز 580 طناً، وأنه لم تعد لدى البنك المركزي الأموال الكافية للدفاع عن العملة المحلية، الليرة، وأن معدلات الفقر والبطالة والتضخم في البلاد تفوق كثيرا نظيرتها في دول العالم، وأن هناك شكوكا في قدرة الاقتصاد التركي على التماسك، وأن ثورة جياع قادمة في الطريق لتطيح حكومة أردوغان. وتمر السنوات ولم يتعرض الاقتصاد التركي للانهيار، أو الخزانة والمالية التركية للإفلاس.
في رأيي أن أزمة تركيا ليست اقتصادية أو إنتاجية، فالاقتصاد التركي شديد التنوع، خاصة بعدما اقتحم مجال الصناعات الدفاعية والتسليح، ولدى هذا الاقتصاد قاعدة إنتاجية قوية، والدليل طفرة الصادرات الأخيرة، ولديه قطاع مقاولات هو الأقوى في المنطقة، وقطاع سياحة لا يزال محط أنظار السياح حول العالم، بل هي أزمة مالية بالدرجة الأولى ترتبط أساسا بتهاوي الليرة ولا تتعلق بتعثر مالي، وإلا ما سمعنا عن التزام تركيا بسداد ديونها الخارجية في المواعيد المحددة دون تأخر قسط واحد أو حتى طلبها تأجيل سداد بعض القروض المستحقة، كما ترتبط باعتماد القطاع الخاص على التمويل الخارجي، واعتماد الدولة على استيراد الوقود من الخارج، سواء النفط أو الغاز.
بل والملفت في الأمر أن وسائل إعلام غربية تشن من وقت لآخر حملة تنتقد فيها عدم لجوء تركيا إلى صندوق النقد الدولي واستنجادها به للحصول على قروض ضخمة أسوة بالدول التي تعاني من مشاكل مالية متعلقة بتراجع إيرادات النقد الأجنبي وتفاقم عجز الموازنة العامة، رغم أن صانع القرار التركي لم يلوح بقصة اللجوء للصندوق، بل ونفى أردوغان أكثر من مرة وبشكل قاطع الحاجة إلى قروض الصندوق الذي صفرت تركيا قيمتها منذ سنوات وسددت آخر شريحة من مستحقاته في مايو/ أيار من عام 2013 وكانت بقيمة 412 مليون دولار.