ماذا لو نظرنا، أو حاولنا النظر إلى الزاوية الأخرى التي لم يتطرق إليها المؤتمر الدولي لبحث الأزمة الغذائية، الذي استضافته ألمانيا، بحضور 40 دولة أول من أمس الجمعة، وعلى الأرجح أن يغيب اليوم الأحد، عن مناقشة قمة الدول الصناعية السبع، التي ستنطلق من قصر الماو جنوب ولاية بافاريا الألمانية بالقرب من الحدود مع النمسا.
فعندما نغرق بما تحاول بوصلة السياسة الدلالة عليه، بأنّ الحرب الروسية على أوكرانيا، هي السبب الوحيد للمجاعة التي بدأت ملامحها تكسو، حتى شعوب الدول الغنية، بعد تضخم الأسعار وتراجع المعروض السلعي واستمرار ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، نجد أنّ ارتفاع الأسعار وزيادة أعداد الجوعى، وخاصة في البلدان الفقيرة والنامية، تعاظما قبل حرب بوتين على كييف، كما كانت إغلاقات عامي كورونا، سبباً مهماً في تعميق الأزمة التي توجتها، ربما، منظومات توريد الإنتاج والخدمات إلى العملاء والمستهلكين.
كذلك إنّ لآثار تراكم سياسة الأقوياء على الضعفاء، إنْ عبر الحصار أو وصفات المؤسسات المالية المانحة، التي حولت دولاً كثيرة حول العالم، من الوفرة والتصدير إلى الندرة والاستيراد، دوراً مهماً في ذلك.
كان الأمل بعد العربدة الروسية، أن نرى صحوة ضمير وعدولاً عن الخطأ والاستهداف، إن من خلال المؤتمر أول من أمس، أو القمة اليوم.
وهذا لا ينفي البتة دور الحرب على أوكرانيا، وإن كانت الآثار أقل مما يجري تسويقه لغايات ثأرية وأغراض سياسية، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، لأننا إن تساءلنا عن حجم صادرات روسيا وأوكرانيا من القمح، الذي يأتي بمقدمة الأسعار المتضخمة والسلع المطلوبة، فسنجد أنّ نسبة صادرات أوكرانيا قبل الحرب لا تزيد على 12% من القمح العالمي، وصادرات روسيا لا تزيد على 18%.
بمعنى، لا يمكننا نفي آثار تراجع المعروض العالمي بعد قرارات روسيا بوقف التصدير وعرقلة تصدير الإنتاج الأوكراني. ولكن ما مصير 70% من صادرات القمح العالمي، ولماذا توجهت إلى المخازن بعد قرارات الدول المنتجة التقييدية أو عرضها الإنتاج بأسعار مرتفعة، مستغلة تراجع العرض وزيادة الطلب بعد الحرب؟
لماذا لم نسمع خلال مؤتمرات وقمم الغذاء وأزمات الفقر والجوع، عن فتح السبل للدول المنتجة في السابق، لأن تعود إلى إنتاج القمح وتصديره، سواء العراق أو سورية أو مصر والسودان
فإن كان حجم صادرات القمح العالمية نحو 200 مليون طن، فإن الصادرات الأميركية تأتي ثانياً بعد الروسية بأكثر من 14%، وكذا كندا بالنسبة نفسها، وفرنسا بنحو 10% من الصادرات العالمية. ومن المفترض، بحال عدم تقييد تلك الدول الصادرات، إضافة إلى الهند وأستراليا والأرجنتين، ألّا تلتهب الأسعار ولا يزيد الطلب، على الأقل للحد الذي أوصل الطن إلى أكثر من 450 دولاراً.
وربما ما قيل عن القمح، ينسحب على النفط والغاز، لجهة حجم الإنتاج الروسي أو تناقص المعروض بالسوق العالمية، وإن كانت حلول الطاقة التي ناقشها مؤتمر الأغذية أو التي ستناقشها الدول الصناعية السبع، تختلف عن حلول القمح، لأن الضيق الأوروبي وربط مصيره الطاقوي بروسيا، دفع المجتمعين إلى البحث عن بدائل والالتفاتة إلى الدول المنتجة الأفريقية والآسيوية ومحاولات ترضيتهم.
قصارى القول: لماذا لم نسمع خلال مؤتمرات وقمم الغذاء وأزمات الفقر والجوع، عن فتح السبل للدول المنتجة في السابق، لأن تعود إلى إنتاج القمح وتصديره، سواء العراق أو سورية أو مصر والسودان؟ على الأقل، بالقدر الذي سمعناه وسنسمعه، عن سبل فتح طرق بديلة لشحن الإنتاج الأوكراني.
ولماذا علينا أن نصدق أنّ حرب بوتين وحدها هي التي زادت عدد الجياع 40 مليوناً، ونتناسى السياسات الأوروبية والأميركية بتحويل السودان، على سبيل المثال، إلى بلد يستورد 95% من استهلاكه السنوي للحبوب؟
فالسودان الذي اخترناه مثالاً ليس إلا، محكوم بالتجهيل والعقوبات ودعم العسكرتارية الحاكمة فيه من الغرب، سواء قبل ثورته على عمر البشير أو بعدها كما اليوم، ما أوصله إلى المجاعات واستيراد طحين خبزه، رغم أنه واحد من أكبر ثلاثة بلدان في القارة الأفريقية من حيث المساحة، وواحد من أهم بلدان العالم التي تتوافر فيها المياه والأراضي الزراعية الصالحة للزراعة بما يقارب 16,900,000 هكتار؛ أي بلغة بسيطة ومختصرة، يمكن أن يكون السودان خزان غذاء عالمياً، يغني الفقراء عن ضغوطات الجشعين وخبث الساسة خلال الحروب.
نهاية القول: ربما ليستوي الطرح، لا بد من الإشارة إلى "قلة حيلة السودانيين أنفسهم"، أو بصيغة أدق، تيه القيادات وغياب الدولة والتخطيط الاقتصادي واستثمار الثروات المتاحة، ليتحول السودان إلى صاحب كلمة وقرار بمعروض الإنتاج الزراعي العالمي، وبشقيه، النباتي والحيواني.
ولئلا نحمّل كامل المسؤولية للكبار المجتمعين في ألمانيا، من الإنصاف الإشارة إلى لهاث رساميل المنطقة العربية، والبترودولار في دول الخليج خاصة، نحو الاستثمارات في الغرب، عبر الرياضة والفن والسندات، وتجاهل المطارح الاستثمارية الذهبية في المنطقة. فإن كان بمقدور الأغنياء العرب شراء القمح، أياً بلغ سعره، فهذا لا ينفي إضاعتهم فرصة استخدام قوة امتلاك الغذاء لما فيه مصالحهم الاستراتيجية، كما يستخدمون، وإن بنسب ضئيلة، نقطة قوة النفط والغاز اليوم.
بيد أنه، رغم مسؤولية السودان والرأسمال العربي، تبقى لذهنية الاستعلاء وعقلية المستعمر الراسخة على ما يبدو في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، الدور الأهم بالحيلولة دون التفكير بالعدالة ومنح الفرص، إن لم نقل منع الفرص والتفقير واستمرار الهيمنة، وإلا، كان السودان، مثالنا اليوم، ملاذاً للغرب وربما العالم من عصا الغذاء الروسية والأوكرانية، كما ستكون الجزائر وقطر والسعودية، محط حلول للهروب من خناق النفط والغاز.