تبدلت التصريحات، وربما المزاج السياسي العالمي، منذ أعيد انتخاب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي سيبدأ مهامه رئيساً للولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني المقبل، لتطاول التبدلات سورية ومستقبل وجود إيران فيها اقتصادياً وعسكرياً.
وفي هذا السياق، باتت استثمارات طهران مهدّدة، ولا سيما مع تصاعد الحرب في المنطقة واتساع نطاق الهجمات الإسرائيلية لأهداف إيرانية في سورية.
ووفق ما نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في السادس من نوفمبر الجاري، فإن "إسرائيل والولايات المتحدة تسعيان للحد من نفوذ إيران في سورية، وذلك عبر التعاون مع الرئيس السوري بشار الأسد".
وبواقع صمت النظام السوري وعدم اتخاذ موقف قوي تجاه القصف الإسرائيلي المستمر للوجود الإيراني على الأراضي السورية، سارعت طهران، على لسان علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد علي خامنئي، إلى تذكير الأسد بطبيعة العلاقات "سورية ثورية ومعادية للصهيونية، وهي إحدى الحلقات الأساسية في سلسلة المقاومة"، نافياً "المعلومات الكاذبة" التي تهدف إلى تدمير العلاقة بين طهران ودمشق، على حد وصفه.
وزاد توجّس إيران من تخلّي نظام الأسد عنها، بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية، مع مؤشرات للتغيّر الجيوسياسي في المنطقة وإعادة مد اليد العربية لبشار الأسد، بعد تطبيع العلاقات وحضوره محافل عربية، كان آخرها القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض. ليأتي السؤال الأهم ربما، هل يستطيع نظام بشار الأسد إخراج إيران، حتى لو انقلب وانضوى بحلف جديد؟
النفوذ الاقتصادي يتراجع
وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المعارضة، عبدالحكيم المصري، يرى أن النظام السوري غير قادر على التخلي عن طهران حالياً، نظراً لتعدد مراكز القوى، حتى داخل النظام، ووجود أطراف أمنية وعسكرية محسوبة على طهران، بعد تغوّل الحرس الثوري والمليشيات في البلاد لأكثر من 10 سنوات.
يضيف المصري لـ"العربي الجديد" أن الأسد لو أخذ قراراً ولم يكن هناك ممانعون داخل نظامه، فهل تقبل إيران الخروج بهذه السهولة، بعد أن أنفقت على مشروعها "العقائدي والجغرافي" عشرات مليارات الدولارات؟ وسورية بالنسبة لها ربما أهم من لبنان واليمن، الأمر الذي يحيلنا إلى ما يمكن أن يقدَّم لطهران من واشنطن.
وحول تراجع الدور الإيراني الاقتصادي في سورية، يؤكد الوزير وجود مؤشرات، منها تجميد عمل شركة التأمين والمصرف بعد أن أعلن افتتاحهما قبل أشهر، إضافة إلى عدم العمل بمعظم الاتفاقات السابقة، خاصة المتعلقة باستثمار الفوسفات وشركة الخليوي ومشروع السيارات المشترك.
ويوضح: تقتصر الاستثمارات الإيرانية على بعض المجالات في الكهرباء والعقارات والزراعة، كما أن التبادل التجاري عدا النفطي لم يتعد 244 مليون دولار عام 2022، قبل أن يتراجع العام الماضي وهذا العام، بعد برودة العلاقات.
وتابع: أتوقع ألا يتجاوز حجم التبادل العام الجاري 150 مليون دولار، رغم أن العلاقات التجارية والاستثمارية مع إيران كانت كبيرة، حتى قبل وقوف طهران إلى جانب الأسد ضد ثورة السوريين عام 2011، إذ كانت إيران ثالث أكبر مستثمر في سورية قبل الثورة بقيمة 10 مليارات دولار.
تخلي سورية تدريجياً عن إيران
تتوالى مخاوف إيران من خسارة "استثمارها العقائدي والاقتصادي في سورية" كما يقول المحلل الاقتصادي عماد الدين المصبح لـ"العربي الجديد"، بعد قرارات النظام التخلي نسبياً عن حزب الله "حتى على مستوى نعي القتلى"، مشيراً إلى وقف توقيع أي اتفاق اقتصادي جديد، منذ نوفمبر من العام الماضي، وقت منح النظام إيران استثمار معمل إنتاج البطاريات الوحيد في مدينة حلب السورية.
ويضيف: حدث تبدّل للعلاقات، ومن أهم مؤشراتها، تراجع توريد النفط الإيراني الخام لسورية، وتجميد طهران الخط الائتماني ومطالبتها بديون قيمتها 50 مليار دولار.
ولا يستبعد المحلل السوري "تخلي الأسد عن إيران تدريجيا" فتغيّر طبيعة العلاقات، برأيه، بدأ منذ "طوفان الأقصى" في أكتوبر من العام الماضي، واعتماد النظام السوري سياسة النأي بالنفس، بل وتسهيل عمليات إسرائيل حتى داخل سورية، فما كان يقال عن "محور المقاومة" قبل الحرب، تغيّر وفق المصالح والمخاطر.
ويتابع: "يبدو أن بشار الأسد اتخذ قرار إعادة تموضع إقليمي يتناسب مع المطالب العربية السابقة التي لم يف بها، واضطر بعد الحرب إلى الالتزام ببعضها، بسبب المخاوف والاغتيال وخسارة كرسي أبيه".
ولكن، يضيف المصبح أن شروط الأسد "إن جاز وصفها بأنها شروط لأنه الأضعف" للتخلي عن "المحور" والمساعدة بإخراج إيران من سورية، تتمحور حول بقائه في السلطة أولاً والمساعدة في تسديد الديون الإيرانية ثانياً، ومن ثم رفع العقوبات والمساعدة في إعادة الإعمار "وأعتقد أن دولا عربية مستعدة لتقديم العون وتحقيق تلك المطالب".
إلا أن المصبح عاد ليقول: "لنعترف أن ذلك ليس بالأمر السهل أو النظري الذي يمكن حله بلقاء أو عبر مؤتمر، لأن التغلغل الإيراني في سورية، منذ عام 2011، وصل إلى جميع القطاعات الاقتصادية والأمنية والجغرافية. لذا يتعلق الأمر بما ستناله طهران في عهد ترامب".
أزمة ديون سورية الثقيلة
كانت اللقاءات السياسية والاقتصادية السورية الإيرانية قد تراجعت للحد الأدنى، بعد تكثيفها إثر مطالبة طهران بالديون في أغسطس الماضي، وكشف وثيقة من مؤسسة الرئاسة الإيرانية أن طهران أنفقت ما يزيد على 50 مليار دولار خلال عشر سنوات على الحرب في سورية، تعتبرها ديوناً واجبة السداد، بينها 18 مليار دولار سيتم استردادها على شكل اتفاقيات واستثمارات اقتصادية بلا ضمانات للتنفيذ.
وتحتوي الوثيقة، التي نشرتها مجموعة "ثورة لإسقاط النظام" الإيرانية المعارضة بعد اختراقها موقع الرئاسة الإيراني، على بيانات وجداول أعدها نائب قسم التنسيق والرقابة الاقتصادية والبنية التحتية التابع للرئيس الإيراني، حميد باداش، في فبراير/شباط 2023.
وهذه الديون هي محور رئيسي بنظر الاقتصادي السوري عبد الناصر الجاسم، ويمكن لنظام بشار الأسد أن يستخدمها مع الدول الداعية إلى إخراج إيران، كحسن نية، رغم أن نظام الأسد، برأي الاقتصادي السوري "غير قادر على إخراج إيران، وليس صاحب قرار مطلق في سورية".
ويتساءل الجاسم: هل من مصلحة واشنطن أو تل أبيب الاستراتيجية إخراج إيران من سورية أو القضاء المطلق على أذرعها في المنطقة؟ "أعتقد لا"، لأن في ذلك الوجود ضمانة على استمرار الاستبداد ومبرر التدخل والمساومة واستنزاف الثروات، لأن العلاقة "كما أراها" توظيف واحتواء أكثر منها صراعاً وجغرافيا.
وحول أثر خروج إيران، فيما لو تمت جدولة انسحابها من سورية، يضيف الجاسم: أولاً علينا التفكير في الاتفاقات الموقعة والتي لا يمكن فضّها بقرار سياسي. كما علينا التفكير في مدى استثمارات إيران في سورية، مالية وعقائدية، والتي لن تتخلى طهران عنها بسهولة، ما يعني أنه قد نرى حلولاً توافقية وتعهدات لا يطبق معظمها. ولكن في جميع الأحوال، لن تبقى المنطقة مستقبلاً كما كانت في الماضي، سواء لجهة سطوة إيران وتمددها أو حتى للعلاقات البينية، التجارية والسياسية في جميع دول المنطقة.
المستشار الاقتصادي السوري أسامة قاضي، يرى أن بناء العلاقات وتعميقها والاتفاقات عبر عقد من الزمن، حوّل سورية إلى "دولة شبه مرتهنة لإيران"، لذا التفكير في انقلاب وخروج بسرعة، هي أمنيات وخطابات سياسية أكثر منها واقعية قابلة للتطبيق.
ويضيف قاضي لـ"العربي الجديد" أن إيران ترى في سورية جغرافيا وثروات لها أهمية خاصة، وذلك غير خاف، بل يردده المسؤولون الإيرانيون في كل مناسبة، وربما ما قاله السفير لدى النظام، حسين أكبري، يختصر كثيراً من التحليل والتوقعات: "علاقاتنا مع سورية مبنية على أساس المبادئ وليس المصالح الاقتصادية.. نحن حاضرون في سورية بالتنسيق مع الحكومة ولن ننسحب أبداً".
وحول الإيجابيات بانسحاب إيران من سورية، أو تحجيم نفوذها وإعادة تموضعها على الأقل، يقول قاضي: من الإيجابيات فسخ 51 اتفاقية مجحفة وقّعها النظام مقابل الدعم وبقائه في السلطة، وخلو الأراضي السورية من 530 نقطة وقاعدة عسكرية وهيمنة على مناطق بأسرها.