موسم "المونة" يعبر من أمام جيوب السوريين الفارغة

29 سبتمبر 2022
سورية تعدّ المكدوس في دمشق (فرانس برس)
+ الخط -

 

اعتاد الناس في سورية خلال سنوات طويلة ماضية على "تموين" العديد من المنتجات الغذائية في نهاية فصل الصيف، لتكون طعامهم طول فصل الشتاء، وحتى الصيف التالي، وهو ما يسهم في تخفيف النفقات، لأنّ شراء الخضروات في موسمها، أرخص بكثير من شرائها في الشتاء، في حال توافرت أصلاً.
غير أن ما يجري في سورية منذ سنوات جعل عملية "المونة" تزداد صعوبة عاماً تلو الآخر، بالنظر إلى الارتفاع الجنوني في الأسعار، مقابل تدني الدخل، وتشتته على الكثير من المصاريف الإضافية، التي لم تكن موجودة سابقاً بالنسبة لمعظم السوريين، مثل استئجار المنازل، لمن فقدوا بيوتهم أو أُبعدوا عنها جراء الحرب، إضافة إلى تكاليف بدائل المفقودات مثل الكهرباء والغاز والمواصلات.
ومع مطلع شهر سبتمبر/أيلول كانت مجمل الأسر السورية تنشغل بإعداد "المكدوس" الذي كان يحتل المرتبة الأولى في سلم المونة، وهو باذنجان بحجم ونوعية معينة، يحشى بالجوز والفلفل والثوم، ومن ثم يُغمر بزيت الزيتون، ويكون عادة حاضراً في وجبة الإفطار في معظم بيوت السوريين. وهذا العام، تعذّر في ما يبدو، على معظم الأسر إعداد المكدوس، بينما من تمكن من ذلك خفض الكمية المعتادة إلى النصف أو الربع، مع تخفيض أو استبدال مواصفات الحشوة، بحثا عن التوفير.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وتشير لوائح الأسعار في مجمل المحافظات السورية إلى أن سعر كيلو الباذنجان الأسود البلدي الصغير المخصص للمكدوس قفز إلى نحو 700 ليرة، بينما وصل نوع الحمصي المحبب للسوريين، إلى أكثر من ألف ليرة. وبلغ سعر الفلفل الحار أو الحلو نحو 2500 ليرة. أما المشكلة الأهم، فهي في سعر الجوز الذي لا يمكن إعداد المكدوس من دونه، إذ وصل سعر الكيلوغرام من النوع الجيد إلى 70 ألف ليرة والنوع الرديء لا يقل عن 40 ألفاً. أما الأزمة الكبرى، فهي في سعر تنكة (صفيحة) زيت الزيتون الذي وصل الى 300 ألف ليرة، فضلاً عن سعر الثوم والملح الصخري، إضافة إلى تكاليف سلق المكدوس على الغاز وأجرة السيارة التي ستنقله من السوق إلى المنزل.

حبة المكدوس بألف ليرة
يقول جهاد حامد من محافظة السويداء جنوب شرق دمشق، لـ"العربي الجديد" إنه موظف في سلك التعليم ولا يتجاوز راتبه الشهري 120 ألف ليرة، وهو في حال أراد صنع 25 كيلوغراماً فقط من المكدوس (وعادة نصنع خمسين كيلو)، فإنّ التكلفة سوف تزيد عن ربع مليون ليرة أي ضعفي راتبي الشهري، ما يعني أنّ حبة المكدوس الواحدة باتت تكلف ألف ليرة سورية، أي أكثر من دولارين.
ويضيف حامد أنّ معظم الأسر في السويداء تجنبت هذا العام إعداد المكدوس بسبب هذه التكاليف التي ليست في متناولها، نظراً إلى ضغط التكاليف الأخرى، خاصة أن موسم المونة يتزامن مع افتتاح المدارس، وهذا باب آخر للمصاريف، ولا يمكن تجاهله أو عدم الوفاء بمتطلباته.
أما السيدة أم جمال من محافظة طرطوس شمال غرب سورية، فقد قالت إنها تحتال على عائلتها وتستبدل الجوز بالفستق السوداني. كما أنها تخلط زيت الزيتون بزيت القلي، لكنّ هذا الأخير بات سعره مرتفعاً أيضاً بعد الحرب في أوكرانيا. وتضيف لـ"العربي الجديد" أنّ جيرانهم تتوفر لديهم الكهرباء بشكل دائم تقريباً بفضل الطاقة الشمسية، لذلك يقومون بغمر قنينة واحدة بالزيت، ويتركون البقية في علب داخل الثلاجة، بحيث يعوضون ما يتم استهلاكه من القنينة المخزنة، وبذلك لا يحتاجون إلى كمية كبيرة من الزيت.
وتشير السيدة أم جود من دمشق إلى أنّ المشكلة ليست في المكدوس فقط، بل في بقية الأشياء "التي اعتدنا تموينها، مثل الزيتون والجبنة واللبنة والبازلاء والملوخية، والمربيات والمخللات وغير ذلك، وكلها باتت أسعارها خيالية، ولا يمكن لأسرة حتى متوسطة الحال، تموين كل هذه الأصناف، كما كان يحصل في الماضي".

وتضيف أنّ بعض هذه الأشياء تحتاج إلى زيت الزيتون لحفظها مثل المكدوس واللبنة، وأسعار الزيت تحلق اليوم بعيداً عن مداخيل معظم السوريين. وتقول: "قديماً كانت كلّ العائلة، وأحياناً الأقارب أيضاً، يشاركون في عملية سلق الباذنجان لإعداد المكدوس نظراً للكميات الكبيرة التي نعدها والتي قد تصل أحياناً إلى 100 كيلوغرام، وبعد السلق نحشو حبة الباذنجان بالملح استعداداً لكبسه داخل أكياس أو صناديق بلاستيكية مع تثقيلها بالحجارة، ثم يشارك الجميع في عملية الحشو مع ما يتخلل ذلك من أجواء عائلية حلوة. أما اليوم، فإنّ من لديه القدرة على المجازفة بإعداد مكدوس، فإنّ الكمية قد لا تتعدى 20 كيلوغراماً أو أقل".
وربما تبدو الصورة أفضل قليلاً في الشمال السوري، بعيداً عن سيطرة النظام، حيث معظم الناس لديهم أراض زراعية ويعيشون على منتجاتها، لكن ظروف التهجير حرمت نحو مليون ونصف المليون منهم من خيرات أراضيهم. ومع ذلك، تقول أم ايهم المقيمة في محافظة إدلب إنّ عائلتها تستفيد من المواسم الزراعية لتأمين احتياجاتها، و"هو ما يسهم كثيراً في ضغط النفقات التي نحتاجها لمجالات أخرى".

المونة مخزون استراتيجي
ويقول الصحافي محمد العيد، إنّ معظم الناس، ممن لديهم بعض الإمكانات المادية عبر الاعتماد على التحويلات التي تصلهم من أبنائهم خارج سورية، يعمدون إلى تموين مادة واحدة أو اثنتين على الأكثر، وضغط النفقات إلى الحد الأقصى خلال شراء أصناف أقل جودة وتقليل الكميات، خاصة أن موسم المونة يتزامن مع افتتاح المدارس، وما تتطلبه من تكاليف.

يقول الصحافي محمد العيد، إنّ معظم الناس، ممن لديهم بعض الإمكانات المادية عبر الاعتماد على التحويلات التي تصلهم من أبنائهم خارج سورية، يعمدون إلى تموين مادة واحدة أو اثنتينر

ويضيف العيد في حديثه مع "العربي الجديد" أن البعض بات يعتمد على حليب البودرة بدل الحليب البقري لصنع اللبنة، وهو متوفر نوعاً ما لأنّه يوزع ضمن معونات الأمم المتحدة. كما يستبدلون الثوم الطازج ببودرة الثوم، مشيراً مع ذلك إلى أنّ الإقبال على تموين المكدوس هذا العام تراجع كثيراً، والبعض يعمد إلى شراء كيلوغرام واحد فقط من المكدوس من محلات السمانة لسدّ شهوتهم لهذه الوجبة التي كانت لعقود تزين موائد الأسر السورية، حتى الفقيرة منها. ويتابع أنّ المونة هي في الأساس للتعامل مع موسم الشتاء الذي تندر فيه المواد الغذائية، التي يكون موسمها في فصل الصيف، فيلجأ السوريون إلى تخزينها للاستهلاك على مدار العام، وحتى لأعوام عدة دون مواد حافظة مصنعة وبلا هدر، خلافاً للشراء اليومي المكلف والذي يهدر جزءاً منه إذا لم يتم استهلاكه ضمن مدة محددة، إضافة إلى أنّ المونة تعتبر مخزوناً "استراتيجياً" من الطعام يفيد إذا قدم ضيف بشكل مفاجئ. ويشير إلى أنّ الفكرة مرتبطة أيضاً بفترات الحروب والمجاعات التي تعرضت لها البلاد، وهو ما عززته سنوات الحرب الأخيرة، إذ اعتمد السكان بشكل كلي تقريباً على المونة حين كانت قوات النظام تحاصر منطقة ما لشهور طويلة.

المساهمون