ربما لا يعرف كثير من الناس السرّ وراء اهتمام كلّ من بكين وواشنطن بالانتخابات الأخيرة التي انتهت قبل أيام في جزيرة غرينلاند، التابعة للدنمارك والتي تتمتع بالحكم الذاتي. لكن، ببساطة، وفق محللين، فإنّ الحزب الذي فاز بأغلبية ساحقة في هذه الانتخابات هو حزب يعارض مشروعاً ضخماً للتعدين، وهو مشروع متخصص بالمعادن الأرضية النادرة، وتملك الصين حصة كبيرة فيه. وبالتالي فإنّ نتيجة هذه الانتخابات رغم ضآلة أهميتها السياسية، تكتسي أهمية كبرى من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية، إذ تحرم الصين وتمنح الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الفرصة لتطوير بدائل لإمدادات المعادن النادرة في تلك الجزيرة التي تصنف على أنّها أكبر جزيرة في العالم.
جزيرة غرينلاند، أي الأرض الخضراء، غنية بالمعادن النادرة التي باتت تهدد النمو الاقتصادي والتطور التقني للولايات المتحدة وحلفائها، وربما تحرمها في المستقبل من التفوق الدفاعي وسط السيطرة الصينية على هذه الموارد، إذ إنّ العديد من القطع الاستراتيجية في الترسانة العسكرية الأميركية يعتمد تصنيعها على المعادن النادرة المستوردة من الصين. كما أنّ المعادن النادرة تدخل في إنتاج السيارات الكهربائية، والشرائح الإلكترونية، والعديد من التقنيات المتطورة التي تحتاجها دول المعسكر الرأسمالي بشدة لمنافسة الصين في المستقبل.
ويعكف الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، على حلّ أزمة المعادن النادرة وسلاسل إمدادات التقنية الفائقة، منذ دخوله البيت الأبيض، عبر دراسة السبل الكفيلة بتوفير هذه المعادن الاستراتيجية لمستقبل التنافس بين واشنطن وبكين.
يوم الإثنين الماضي، عقد البيت الأبيض جلسة حوار عبر الـ"فيديو كونفرنس" مع رؤساء شركات التقنية الكبرى، ومن بينها "غوغل" و"مايكروسوفت" و"ألفابيت" و"إنتل" و"ايه تي آند تي" كما شركتي "جنرال موتورز" و"فورد" اللتين تعكفان على زيادة إنتاج السيارات الكهربائية. وخصصت الجلسة لمناقشة أزمة أشباه الموصلات التي تعتمد على المعادن النادرة وباتت واحدة من مهددات الأمن القومي الأميركي.
في هذا الشأن، قال رئيس الأغلبية بمجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر في تعليق على أزمة أشباه الموصلات في فبراير/ شباط الماضي: "يعد تصنيع أشباه الموصلات نقطة ضعف خطيرة في اقتصادنا وكذلك في أمننا القومي". وتتكون المعادن الأرضية النادرة من 17 عنصراً معدنياً تتميز بخصائص مغناطيسية وكهروكيميائية فريدة. ومن بين هذه المعادن معدن الروديوم وهو أغلى من الذهب، ويستخدم في المحولات، ومعادن الرويثينوم، والرينيوم، والأوزميوم، والإريديوم.
وبحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" تسيطر الصين على تعدين نحو 70% من هذه المعادن، كما تقوم بعمليات المعالجة والتنقية لنحو 90% من الإنتاج العالمي. ويرى محللون أنّ الولايات المتحدة والدول الغربية ما زالت متأخرة عن الصين في تقنية استخراج ومعالجة المعادن الأرضية النادرة.
وفي سبيل معالجة النقص في المعادن الأرضية النادرة، رصدت إدارة بايدن نحو 30 مليون دولار للبحث والكشف عنها، ضمن خطة البنية التحتية التي أعلن عنها الرئيس الشهر الماضي. وتأمل الولايات المتحدة، الحصول على كميات وفيرة من المعادن النادرة في أراضيها، لكن، يرى محللون أنّ أزمة الولايات المتحدة والدول الغربية ربما لا تنتهي بتوفر احتياطات المعادن النادرة، إذ إنّ مشكلتها تكمن في أنّها لا تملك التقنيات اللازمة للمعالجة والتنقية.
في هذا الصدد، قال الرئيس التنفيذي لشركة "نيو بيرفورمانس ماتيريلز" كونستانتين كارايانوبولس إنّ "معالجة هذه المعادن الأرضية النادرة تحتاج إلى مهارات وخبرة، نادراً ما تتوفر خارج الصين". وأضاف الخبير كارايانوبولس: "من الصعب على الشركات الأميركية منافسة الصين من دون أن تتلقى مساعدات حكومية". وفي العام 2017 تلقت شركة "شينغي ريسورسس" ومقرها في ولاية كاليفورنيا، مساعدات حكومية، لكنّ الشركة مملوكة جزئياً لمستثمرين من الصين، وهو ما أثار لاحقاً شكوك وزارة الدفاع. وتبدو شركات التقنية والدفاع الأميركية قلقة بشأن معدن الليثيوم والمعادن النادرة الأخرى.
ويرى مسؤولون في إدارة بايدن، أنّ توفير الإمدادات الكافية من المعادن النادرة مكون مهم من مكونات الأمن القومي الأميركي، خصوصاً أنّها تدخل في تصنيع الشرائح المشغلة للكومبيوترات والعديد من الصناعات الدفاعية المهمة.
وبحسب تقرير صادر عن الكونغرس، فإنّ كلّ طائرة من طائرات الشبح، "أف ـــ 35 ستيلث" يحتاج تصنيعها لنحو 920 رطلاً من المعادن النادرة، كما يحتاج تصنيع الغواصة إلى 5200 رطل من المعادن النادرة، لكنّ غواصة من نوعية "فيرجينيا" المتطورة تحتاج إلى 9200 رطل (الرطل الأميركي يساوي 0.453 كيلوغرام). وتعدّ المعادن النادرة من المكونات المهمة في صناعة السيارات الكهربائية، والهواتف النقالة، والشرائح الإلكترونية.
وتستورد الولايات المتحدة نحو 80% من احتياجاتها من المعادن النادرة من الصين. وبحسب نشرة " آسيا تايمز" فإنّ الصين تسيطر حالياً على إمدادات المعادن النادرة في العالم. ورأى الخبير في المعادن النادرة ومؤسس نادي التعدين في لندن، ديفيد زيكن، في حديثه للنشرة التي تصدر بالإنكليزية في هونغ كونغ، أنّ "على الغرب أن يفعل كلّ ما بوسعه لاحتواء الجهود الصينية الرامية للسيطرة على المعادن النادرة، وإيجاد بدائل". ووفق زيكن فإنّ "الخبر السار بالنسبة للولايات المتحدة أن هناك دولاً صديقة للولايات المتحدة غنية جداً بالمعادن النادرة مثل كندا وأستراليا والهند، وأنّ هذه الدول قادرة على سد النقص العالمي في المعادن النادرة" لكنّه أشار إلى أنّ الأنباء السيئة أنّ "عملية الإنتاج التجاري تأخذ وقتاً طويلاً". وتكتنز الصين نحو 33% من احتياطات العالم من المعادن النادرة.
ويأمل الرئيس التنفيذي لشركة "يو إس ايه رير إيرث إل إل سي" بيني الثايوس، إنشاء سلسلة من المناجم للمعادن النادرة وطرحها للاكتتاب
في البورصة خلال العام الجاري. وتخطط شركته لإنتاج 2200 طن سنوياً. لكنّ هذا المعدل من الإنتاج يمثل جزءاً ضئيلاً من الطلب العالمي على المعادن الأرضية النادرة البالغ 408 آلاف و500 طن سنوياً. وحتى الآن هناك ثلاث شركات على الأقل مقرها الولايات المتحدة لديها مصانع معالجة معادن نادرة تحت الإنشاء أو قيد التخطيط. ومن غير المتوقع بدء العمل في اثنين منها قبل العام المقبل 2022، بأفضل تقدير.
وتعد عملية تنقية ومعالجة المعادن الأرضية النادرة عملية معقدة ومكلفة، بحسب تقرير بقناة "سي إن بي سي" الأميركية، إذ بعد استخراج المعادن الأرضية الخام يجري شحنها إلى مصانع معالجات فرز، حيث يتم فصلها من المعادن الأخرى المختلطة بها وتنقيتها من بعض الأكاسيد. وهذه التقنية تتخصص فيها الصين، ولذلك ترسل بعض الشركات الأميركية التي لديها مناجم لهذه المعادن إنتاجها لمعالجته لدى الشركات المتعاقدة معها بالصين.
ويعتمد مشروع تحديث البنى التحتية في الولايات المتحدة الذي رصد له الرئيس جوزيف بايدن، نحو 2.3 تريليون دولار، في العديد من مكوناته المرتبطة بتقنيات حديثة في قطاع المواصلات والاتصالات، على المعادن الأرضية النادرة، إذ إنّ استخدام السيارات الكهربائية كبديل للوقود الأحفوري يعتمد على المعادن الأرضية النادرة، كما أنّ تقنيات أشباه الموصلات هي المكون الرئيسي في حاسبات الكومبيوتر ومعالجات البيانات.
ولا تقتصر أزمة المعادن الأرضية النادرة على الولايات المتحدة، إنّما تمتد كذلك لأهم حلفائها في أوروبا. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أرسولا فون ديرلاين، في فبراير/ شباط الماضي: "يجب على دول الاتحاد الأوروبي أن تنهي الاستيراد من الخارج في تنمية قدراتها التقنية" في إشارة واضحة إلى حاجتها لاستيراد المعادن الأرضية النادرة من الصين.