يتابع المصريون ما يصدر بشأن الوضع الاقتصادي في بلدهم بشغف كبير، خصوصاً ما يصدر عن المؤسسات الدولية، أو وسائل الإعلام الأجنبية، سواء كانت تخص ارتفاع معدلات الدين العام، أو تراجع أرصدة النقد الأجنبي في البنوك، وتحولها لرصيد سالب على مدار الأشهر الماضية.
ثم يجدون أنفسهم أمام قرارات اقتصادية، تتعلق برفع سعر الفائدة، وتخفيض قيمة الجنيه، وإجراءات تحد من عمليات الاستيراد، وتقارير عن استمرار ركود النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص غير النفطي، وارتفاع للأسعار بمختلف المجالات.
ولطالما استمرت الحكومة في حديث الإنجازات بالبنية الأساسية، وتصدير بيانات زيادة قيمة الناتج المحلي، وزيادة معدلات النمو، وكذلك إظهار تقدم الاقتصاد على الصعيدين العربي والأفريقي، لكنّ أزمتي كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، كشفت عن جوانب قصور كبيرة في الاقتصاد، واضطرت رئيس البلاد عبد الفتاح السيسي وبعض المسؤولين إلى تغيير لهجة خطابهم حول الاقتصاد، والتي كان آخرها تصريح السيسي بأنّ الأزمة الاقتصادية في مصر، كانت أكبر من أيّ رئيس أتى إلى السلطة.
ويلاحظ أنّ الوعود الزمنية حول تحسن الأوضاع الاقتصادية، من قبل السيسي أو الوزراء أو باقي المسؤولين، قد اختفت، فلم يعد هناك حديث عن عامين أو ستة أشهر، أو تحسن الأوضاع المعيشية، حيث لم تف الحكومة أو السيسي بوعودهما السابقة، بل استخدمها المعارضون والمجتمع للسخرية من الأداء الاقتصادي للسيسي وحكومته.
المخاطر تحيط بالمواطنين
ولم تعد الأوضاع الاقتصادية مجرد سجال سياسي بين مؤيدين ومعارضين، لكنّ الناس يتأثرون بشكل مباشر بأوضاع الاقتصاد في معيشتهم، فبين يوم وليلة وجد المدخرون أنّ ودائعهم تضاءلت بنسبة تصل إلى 18%، وارتفاع الأسعار في صعود مستمر، كما أنّ حالة الركود التي تضرب القطاع الخاص غير النفطي، لا تخطئها عين.
فالإجراءات التي اتخذتها الحكومة من أجل تقييد الاستيراد، وكذلك شح العملات الأجنبية في الأسواق، وضعت المنتجين والمستوردين في أزمة، ولعلّ تصريحات مسؤولي بعض الغرف في اتحاد الغرف التجارية أو في اتحاد الصناعات، خير دليل على المخاوف بشأن المستقبل الاقتصادي، من خلال القلق المتعلق بنفاد مستلزمات الإنتاج، بسبب تقييد الاستيراد وعدم توفير النقد الأجنبي.
وحيال هذه الأوضاع، نجد أنّ ثمة تناولاً مختلفاً حول واقع ومستقبل الاقتصاد المصري، منها ما هو موضوعي يضع النقاط على الحروف، من دون تهويل للمشكلات، أو تهوين منها، في ضوء ما يرد من أرقام وبيانات صادرة عن مؤسسات محلية أو دولية. وهناك من يتخذون من وسائل التواصل الاجتماعي ساحة لتصفية حسابات سياسية، فنجد من يصدر الأمر على أنه أزمة عابرة، أو أن الأمر يتعلق بأسباب وأزمات إقليمية وعالمية، وأن مصر بعيدة عن شبح الإفلاس، وأن الوضع الخاص بالدين العام في الحدود الآمنة. والبعض يذهب إلى الطرف الآخر، من تصدير صورة قاتمة، تخيف الناس من مستقبل الأوضاع الاقتصادية، ويرى كلّ شيء من منظور سلبي، بل يصل الأمر إلى أن يلوي البعض الحقائق، ويحمّل الأمور أكثر مما تحتمل.
وكلا الطرفين، يضر بالاقتصاد المصري، ويجعل الناس في حيرة من أمرهم، خصوصاً أصحاب المدخرات، الذين لا يجيدون ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة، ويكتفون بوضع ما تيسر لهم من مدخرات في البنوك، ويهرع هؤلاء للاستفسار عن مستقبل الأوضاع الاقتصادية للبلاد، التي يرونها من خلال مستقبل مدخراتهم.
يتساءل هؤلاء هل ستفلس البنوك المصرية؟ هل سيستمر الدولار في صعود أمام الجنيه، هل يحول مدخراته إلى ذهب أو عقار أو دولار. هل يضع مدخراته في شهادات الاستثمار بعائد 18%؟ لقد خذلتهم الحكومة من قبل في شهادات استثمار قناة السويس، بعد تخفيض قيمة الجنيه، ورفعت سعر الفائدة لما هو أعلى من العائد على الشهادات.
ولا يقتصر الأمر على المدخرين، فأصحاب المؤسسات الاقتصادية بخلاف العاملين في مجالات الغذاء والدواء، يريدون من يطمئنهم على مستقل النشاط الاقتصادي في مصر، خصوصاً أنّهم تحملوا كامل الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية خلال الأعوام الماضية.
مسؤولية من؟
من أكبر الآفات التي تضر أي اقتصاد، غياب الثقة بين الشركاء الاقتصاديين، وشعورهم بأنّ القرارات الكبيرة التي تحدد مسار الأنشطة الاقتصادية، تُتخذ بشكل فردي، ومن قبل غير متخصصين، أو تنفرد بها جهة دون باقي الجهات التي يجب أن تشارك في صنع القرار.
كذلك قضية المساءلة، من القضايا المهمة التي تُطمئن الناس على الأوضاع الاقتصادية للبلاد، من دون مساءلة، ومحاسبة على ما تتعرض له البلاد من أضرار اقتصادية، تجعل الناس يميلون بشكل طبيعي لإخراج أموالهم من البلاد، كما يفضلون ممارسة الأنشطة الريعية، سريعة العائد، لكي يكونوا في مأمن من مخاطر اتخاذ قرارات اقتصادية غير مدروسة من قبل الحكومة.
ولعلّ الحالة المصرية، عانت من المشكلتين السابقتين بشكل كبير، لناحية تعميق عدم الثقة، وغياب المساءلة، ويزيد الأمر خطورة، قضية غياب الشفافية، فهناك كثير من الأمور المحيرة التي تجعل المواطن يبحث عن إجابات حول أداء البلاد الاقتصادي، ولا يجدها. فكيف تتحدث الحكومة عن مشروعات كبرى، وزيادة في الناتج المحلي الإجمالي وزيادة معدلات النمو، وتستدل على نجاعة سلوكها الاقتصادي بشهادات لمؤسسات التصنيف أو بعض خبراء المؤسسات المالية الدولية، في حين أنّ المواطن يلتهب ظهره بارتفاع الأسعار، ويرى الفقر تتسع رقعته، وبجد أنّ البلاد تعتمد بشكل كبير على الخارج، وكلما مر العالم بأزمة اقتصادية، هرعت الحكومة المصرية للاقتراض من الخارج، والمطالبة بالدعم من مصادره الإقليمية والعالمية؟
روشتة واضحة ومسبوقة
كثيراً ما علق أو نصح الخبراء الاقتصاديون المصريون في المقدمة، وكذلك الخبراء الأجانب المعنيون بالوضع الاقتصادي لمصر، بضرورة أن تعمل الحكومة المصرية، على إرساء قواعد دولة القانون بشكل رئيس، وتغيير قواعد اللعبة السياسية، والعمل على وجود نظام ديمقراطي حقيقي، لا يستبعد أي شريك سياسي يعمل في إطار دستوري وقانوني.
وكذلك أهمية أن يكون شركاء التنمية (الحكومة، ومجتمع الأعمال، والمجتمع المدني) ممثلين في كافة مراحل صنع القرار، وإعداد الموازنة العامة، وأن يُعبر مجلس النواب عن المجتمع، ويقوم بدوره في الرقابة على أعمال الحكومة بشكل صحيح، عبر تفعيل دوره الرقابي والتشريعي، وليس مجرد ما يسمى "عمليات التنفيس" بأن يسمح لبعض النواب بانتقاد الحكومة، وإذاعة بعض الجلسات التي تنتقد أعمال الحكومة، بينما تنتهي باعتماد ما تقدمه الحكومة من أعمال.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أهم انتقاد يوجه للأداء الاقتصادي في مصر، بعد انقلاب يوليو/تموز 2013، وهو سيطرة الجيش على مقدرات الاقتصاد المدني، والتضييق على القطاع الخاص، بشكل أوجد خللاً كبيراً في المعادلة الاقتصادية، سواء من حيث الحصول على التمويل، أو ممارسة النشاط الاقتصادي.
فلا بد من عودة الأمور إلى نصابها الصحيح، برجوع الجيش لمهمته الرئيسة وهي الدفاع الخارجي عن البلاد، وترك مقدرات الاقتصاد المدني لمجتمع الأعمال (العام والخاص) والمجتمع الأهلي.
ختاماً: إنّ ثمن غياب طمأنة الناس على مستقبل أوضاعهم الاقتصادية، له عواقب وخيمة على الصعد المختلفة، وعملية الطمأنة هي مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى، ولا تكون من خلال وعود، بل من خلال الأعمال، وإلّا سيكون الثمن مزيداً من الفشل الاقتصادي، وتحميل الأجيال القادمة أعباء لا قبل لها بها.