لم يكن إيمانه بالعدالة الإجتماعية أو ضعف قبضته الأمنية مبررا لإبقاء الرئيس المخلوع، حسني مبارك، على سعر رغيف الخبز المدعوم عند 5 قروش لمدة 23 سنة منذ 1988 حتى سقوطه عن الحكم في فبراير/شباط 2011. لكن الاحتجاجات الشعبية وحدها هي التي حالت دون الاقتراب من سعره الذي حاول زيادته عدة مرات باءت جميعها بالفشل.
وقد لا يمر وقت طويل حتى تكشف الأحداث المتسارعة في بر مصر المضطرب منذ اندلاع ثورة يناير عن أن التكلفة الاجتماعية والسياسية لقرار الجنرال عبد الفتاح السيسي بزيادة سعر رغيف الخبز المدعم، إذا طبقه، كانت فارفة ومؤثرة في الأحداث اللاحقة.
ليس لأهمية الخبز المدعم أو العيش عند غالبية المصريين فحسب، ولكن لتوقيت إتخاذ القرار الذي يتزامن مع تردي الحالة الإقتصادية التي يعيشها عموم المصريين بفعل الأداء الإقتصادي المتردي وتداعيات أزمة كورونا.
قد يقوم النظام بتخفيض دعم رغيف الخبز بزيادة السعر إلى عشرة قروش أو بتخفيض عدد الأرغفة المخصصة للفرد إلى 4 بدلا من خمسة، أو بحذف مزيد من مستحقي دعم الخبز، أو بهم جميعا، لتوفير مبلغ 8 مليارات جنيه خصما من موازنة دعم الخبز البالغة 50 مليار جنيه لاستخدامها في تغذية أطفال المدارس، لكن رد الفعل الشعبي قد يفوق التوقعات.
فما إن صرح السيسي عن عزمه رفع سعر الخبز المدعوم بقوله "جه الوقت أن رغيف العيش أبو 5 صاغ ده يزيد ثمنه.. مش معقولة أدي 20 رغيف بثمن سيجارة.. الكلام ده لازم يتوقف"، حتى تصدر وسم (#إلا_رغيف_العيش) موقع تويتر في مصر، تعبيرا عن الغضب والرفض الشعبي، ولولا القبضة الأمنية وسياسة مواجهة التظاهرات بالرصاص الحي لاندلعت الإحتجاجات في الشوارع والميادين.
الملاحظ أن هيئات واتحادات مهنية وشخصيات عامة ودينية انبرت لدعم وتمرير القرار. وفي المقابل لم تدافع عن حق المواطن الغلبان جهة رسمية أو حزبية أو نقابية وتركه الجميع عريانا في الطريق العام. حتى البرلمان الذي يعبر عن المواطن المسكين ومحاميه أمام السلطة التنفيذية فقد أيد القرار ومجده.
رغم تخفيض عدد المستفيدين من دعم الخبز من 81 مليونا إلى 71 مليونا، بنسبة 12.3%، انخفضت قيمة دعم الخبز من 53.1 مليار جنيه إلى 50.6 مليارا فقط، بنسبة 4.7%
واقترح رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية، إبراهيم محمود العربي، وهو ابن رجل أعمال ناجح ونزيه ومنحاز لطبقة الغلابة، تسعير رغيف الخبز المدعم بـ 20 قرشا بدلا من 5 قروش بنسبة ارتفاع 300%.
الاقتراح يعني تخفيض دعم عيش الغلابة بمعدل 19 مليار جنيه، وليس 8 مليارات كما طلب السيسي!. والاتحاد يضم شعبة أصحاب المخابز المتربحين من عيش الغلابة، ومستوردي القمح التمويني، مادة صناعة الخبز، وأصحاب شركات النقل المسؤولة عن نقل القمح والدقيق من الموانئ والصوامع إلى المطاحن والمخابز.
قد يستهدف الاقتراح رفع السقف والمبالغة في السعر لتهيئة الجمهور لتقبل الزيادة في السعر التي سيفرضها النظام.
لكن يجب ألا يكون الاتحاد عرابا لصفقة سياسية على حساب المواطن الغلبان. ذلك أن زيادة سعر الرغيف إلى 10 قروش بدلا من 5 قروش، وحذف رغيف كامل من حصة المواطن، حسب توقعي، يعني تخفيض دعم الخبز بواقع 36%، وهي نفس النسبة تقريبا التي سيخسرها أصحاب المخابز ومستوردي القمح وشركات النقل.
تأييد نقيب الفلاحين القرار واعتباره أن السيسي انتصر للغلابة ورد الاعتبار والكرامة لرغيف الخبز مزايدة ساذجة.
تسعير رغيف الخبز المدعم بـ 20 قرشا بدلا من 5 قروش بنسبة ارتفاع 300%، يعني تخفيض دعم عيش الغلابة بمعدل 19 مليار جنيه، وليس 8 مليارات
أما توظيف رجال الدين في تأييد القرار فقد كان كالدبة التي قتلت صاحبها. فقدم أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أحمد كريمة مبررات مغلوطة لزيادة سعر رغيف الغلابة.
فادعى الشيخ أن الخبز الزائد عن الاحتياج يُصنع منه مشروب محرم في القرى والمناطق الشعبية، وأن عربات الكارو تطوف بالبيوت وتجمع الخبز الزائد والذي أصابه العفن وتشتريه ليصنع منه مشروب البوظة المحرم والذي يقدم للطبقات الكادحة.
تأييد الشيخ قرار زيادة سعر الخبز لزيادة الحصة عن حاجة الغلابة، هو ايحاء برفاهية الكادحين في مصر وتقلبهم في النعم. وهذا افتراض غير صحيح، فهم يضطرون لأكل الخبز المدعم رغم رداءته وسوء خبزه لأنهم لا يملكون ثمن غيره الجيد، ويضطرون للاستغناء عن بعضه رغم عدم كفايته من أجل شراء سلع ضرورية أخرى لا يملكون ثمنها من خلال نقاط الخبز.
أما تأييد الشيخ القرار بحجة استخدامه في صناعة البوظة المحرمة، فهو ادعاء خاطئ واستدلال فاسد. فليس كل البوظة حرام يا مولانا، بل منها الطازج الحلال ومنها المسكر الحرام.
كما أن تكلفة تجميع الخبز الفاسد بعربات الكارو، كما يدعي الشيخ، أعلى بكثير من شراء الخبز الجيد لصناعة البوظة بالسعر الحر.
والخبز الذي أصابه العفن لا يصلح لإنتاج البوظة، وأصحاب المزاج يعرفون ذلك جيدا. بل إن البوظة لا تصنع أساسا من الخبز البلدي استخراج 82% لاحتوائه على الردة التي تفسد الصنعة وتعيب المشروب، وإنما تصنع من الخبز الفينو الأبيض استخراج 72%.
وهل يجوز شرعا يا مولانا أن يعاقب من يشتري الخبز لطعام أولاده بجريرة من يشتريه لعمل البوظة؟! وهل يجوز منع تداول الأدوية المخدرة أو زيادة سعرها بحجة أن البعض يتعاطاها للكيف؟! هذا قياس فاسد يا شيخ.
في تقديري أن تخفيض فاتورة دعم الخبز لا يكون بزيادة سعره، ولا تقليل عدد المستفيدين في ظل تزايد أعداد العاطلين والفقراء، ولكن بتقليل الفساد الحكومي المحيط بمنظومة الدعم.
فرغم تخفيض عدد المستفيدين من دعم الخبز من 81 مليونا إلى 71 مليونا، بنسبة 12.3%، انخفضت قيمة دعم الخبز من 53.1 مليار جنيه إلى 50.6 مليارا فقط، بنسبة 4.7%، وفق بيانات الموازنة العامة للدولة.
فاتورة دعم خبز الغلابة ضئيلة بجانب فاتورة الفساد الحكومي في بعض الوزارات الخدمية التي كشفها الجهاز المركزي للمحاسبات في سنة 2015 فقط، والتي بلغت 600 مليار جنيه، ليس فيها فساد مؤسسة الرئاسة ووزارات الدفاع والشرطة والقضاء.
تمت زيادة السعر بطريقة غير مباشرة وملتوية بتخفيض وزن الرغيف من 130 غراما إلى 110 غرامات. ثم خُفض الوزن مرة ثانية إلى 90 غراما، لتصل نسبة التخفيض إلى 30%
ولما أعلن رئيس الجهاز، وهو مؤيد للجنرال السيسي، عن خطورة الملف تعرض للاعتداء البدني والاغتيال المعنوي وأدخل السجن وما زال يقبع فيه، ليكون عبرة لكل مدافع عن المال العام.
أما وزارة التموين، والتي يفترض أن يختار قادتها من المشهود لهم بالأمانة والنزاهة ونظافة اليد وهي تدير أموال دعم الغلابة، وصل إليها قطار الفساد مبكرا حتى وصل إلى مكتب الوزير.
فبعد انقلاب 2013 تولى الوزارة اللواء محمد أبو شادي. وبعد شهور معدودة، ألقت هيئة الرقابة الإدارية القبض على مدير مكتب الوزير بتهمة تقاضى رشى مالية بلغت 8 ملايين جنيه في مقابل منح تأشيرات لصفقات شراء قمح مخصص لإنتاج الخبز المدعم أو عيش الغلابة.
وبعد تغيير أبو شادي، خلفه، الدكتور خالد حنفي، الذي أجبر على الاستقالة بعد إثبات لجنة تقصٍّ برلمانية فساد الوزير وتمكينه تجارا فاسدين من الاستيلاء على أموال شراء القمح اللازم لتصنيع خبز الغلابة وإهدار ما لا يقل عن 15 مليار جنيه من المال العام على مدار ثلاث سنوات.
وقال رئيس اللجنة إن حنفي أُقيل ولم يستقل. ورغم إثبات الفساد لم يفتح تحقيق في القضية وتمت تسويتها في مكتب النائب العام، وعين النظام حنفي أمينا عاما لإتحاد الغرف التجارية التابع للجامعة العربية.
وفي مايو/أيار سنة 2018، أعلنت هيئة الرقابة الإدارية في بيان صحافي القبض على مستشار الوزير الحالي للإعلام والمتحدث الرسمي للوزارة، ومستشار الوزير للاتصال السياسي بمجلس النواب ورئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الغذائية، ومدير مكتبه، لتقاضيهم رشاوى مالية تجاوزت المليوني جنيه من شركات توريد السلع المخصصة لدعم الغلابة مقابل إسناد أوامر التوريد عليها بأسعار مبالغ فيها.
ليست المرة الأولى التي يخفض فيها دعم الخبز. ورغم تعهد السيسي بعدم تخفيض الدعم قبل إغناء الناس، وأن رغيف الخبز "لم يمس ولن يمس" فقد تمت زيادة السعر بطريقة غير مباشرة وملتوية بتخفيض وزن الرغيف من 130 غراما إلى 110 غرامات. ثم خُفض الوزن مرة ثانية إلى 90 غراما، لتصل نسبة التخفيض إلى 30%، مع الإبقاء على سعر الرغيف دون تخفيض في المرتين.
وفي 18 يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن وزير التموين أمام مجلس النواب عن تخفيض عدد المستفيدين من دعم الخبز من 81 مليون مواطن إلى 71 مليوناً!
وهذه المرة لن يكون توقيت زيادة سعر رغيف الغلابة مناسبا أبداً.
فمعاناة المصريين من الفقر زادت بسبب فشل الأداء الاقتصادي، أو ما يطلق عليه "الإصلاح الاقتصادي" من باب الخداع كما يطلق على تخفيض الدعم ترشيدا وإعادة هيكلة. وبسبب تداعيات جائحة كورونا المستجد الذي يفتك بالحياة منذ مطلع العام الماضي.
كما وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل في الربع الأول من هذا العام نتيجة الموجة الثانية للجائحة التي بدأت في شهر يناير/كانون الأول الماضي، وفق بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إضافة إلى فقدان 2 مليون عامل يعيلون 10 ملايين مواطن، وظائفهم.