معضلة العودة إلى المكاتب في بريطانيا: امتناع على وقع ارتفاع التضخم

26 ابريل 2022
يرفض الكثيرون العودة إلى المكاتب (Getty)
+ الخط -

على الرغم من عودة الحياة إلى طبيعتها تقريباً في جميع المجالات في بريطانيا، بعد إعلان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إنهاء جميع قيود كوفيد 19، تشهد البلاد صراعاً بين الموظفين وأرباب العمل فيما يتعلق بالعودة للعمل من المكاتب.

وتعمد بعض الشركات إلى اعتماد سياسة الترهيب لإخضاع موظفيها، حيث تهدد بخسارة الوظيفة في حال عدم القدوم إلى المكتب، بينما تعمد أخرى إلى إحياء فعاليات وأجواء من المرح والطعام والمشروبات المجانية للتشجيع على العودة إلى المكتب. 

في المقابل، يرفض عدد لا يستهان به من الموظفين العودة إلى المكتب، ويبرّرون ذلك بالتضخّم المالي في البلد وارتفاع كلفة المواصلات والبترول، والنفقات الإضافية التي ستفرضها عليهم سياسة العمل من المكتب. 

دفع هذا الأمر بعدد من الشركات إلى اعتماد أسلوب أكثر مرونة في التعامل مع الموظفين الذين اعتادوا خلال جائحة كوفيد 19 على العمل من المنزل، حيث طلب الرؤساء من الموظفين الحضور لمدة يومين أو ثلاثة أيام فقط في الأسبوع. 

"شعرت بأن صحتي النفسية كانت أفضل خلال العمل من المنزل بسبب تقلص ضغوط المواصلات ورتابة العمل من المكتب"، يقول فريزر (25 عاماً) لـ "العربي الجديد"، ويكمل أنّه استقال من وظيفته في مكتب محاماة في لندن لأنه يرفض استهلاك صحته في بيئة عمل تقليدية.

فريزر يتدرّب حاليا مع شركة التوظيف "FDM" كونه يسعى إلى الحصول على وظيفة تسمح له بالعمل من المنزل. ويتابع: "لست وحيدا في رفضي العودة إلى المكتب، بل إنّ العديد من أصدقائي تخلوا أيضاً عن وظائفهم عندما طُلب منهم الحضور، ويبحثون عن وظائف تناسب هذا العصر". 

حالة فريزر تشبه الآلاف من الموظفين الذين يرفضون العودة إلى مكاتبهم للعمل، وذلك بعدما أطلقت الحكومة البريطانية حملة لإعادة موظفي الخدمة المدنية المقيمين في منازلهم إلى المكاتب.

آليات "التخويف"

وجمع جاكوب ريس موغ، وزير كفاءة الحكومة، جدولا لتصنيف الإدارات حسب معدلات الإشغال. كما لجأ إلى ترك ملاحظات على مكاتب موظفي الخدمة المدنية تقول: "آسف لأنك كنت بالخارج عندما زرتك. أتطلع إلى رؤيتك في المكتب قريبًا جدًا".

أثارت تصرّفات موغ، وزير الدولة، قلق ما لا يقل عن أربعة أمناء دائمين من كبار موظفي الخدمة المدنية، مع تحذير جونسون من إجبار موظفي الحكومة على العودة إلى المكاتب وسط غضب متزايد  بسبب اتباع "تكتيكات التخويف"، بحسب ما ذكرت صحيفة "ذا غارديان".

من جهته، كتب موقع بلومبيرغ الأميركي أنّ الفرصة الوحيدة لأرباب العمل لكسب الصراع واستعادة النظام القديم قبل الوباء تتمثل بالاتحاد لإجبار الموظفين على العودة إلى مكاتبهم. لكن في غياب مثل هذه المؤامرة الكبرى، سيرتفع صوت الموظفين ضد العودة إلى المكتب، وسيستخدم أصحاب العمل الأذكياء المرونة كأداة للتوظيف.

وتشير سلسلة من استطلاعات آراء الموظفين إلى أنّ شركة إيبسوس وجدت أن ثلث الموظفين يفضلون الاستقالة على العودة إلى المكاتب بدوام كامل؛ ووجد استطلاع أن 64% يخشون أن تؤدي العودة إلى العمل إلى الإضرار بصحتهم العقلية. كذلك، يشعر ثلثا موظفي غوغل بعدم الرضا بسبب الاضطرار إلى العودة إلى العمل من المكاتب لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

ولفت أرباب العمل إلى أن الموظفين الجدد المحتملين قد يطالبون بعمل مرن كشرط حتى للتفكير في الحصول على وظيفة.

في الوقت ذاته، فإن الإصلاحيين الذين خلصوا إلى أن شيئًا أساسيًا قد تغير في عالم العمل يثقون بشكل متزايد في تحليلهم. ويقولون إنّ خير مثال على ذلك هو تقليص شركة ديلويت العملاقة للمحاسبة والاستشارات مساحة مكتبها في لندن بأكثر من الثلث، حيث أصبح النموذج الهجين سائدًا، ويحق لبعض الموظفين أن يختاروا العمل من المنزل بدوام كامل.

البحث عن المواهب

ويشهد العالم اليوم روايات غير تقليدية عن سوق العمل، وسط كفاح أصحاب المؤسسات لتوظيف المواهب. وتُظهر الأرقام عددًا قياسيًا من الوظائف الشاغرة في بريطانيا ومعدلات عالية من الموظفين الذين يتخلون عن أعمالهم.

وفقًا لمكتب الإحصاء الوطني (ONS)، كان هناك 1.29 مليون فرصة عمل قياسية في المملكة المتحدة بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار من هذا العام؛ كذلك تُظهر البيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأميركي (BLS) وجود 11.3 مليون وظيفة شاغرة في فبراير/ شباط، مع ترك ما يقرب من 3% من القوى العاملة الأميركية مناصبهم.

وتمتد المنافسة على الموظفين إلى ما هو أبعد من العمل المعرفي؛ وفق ما كتبت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، والرواتب آخذة في الارتفاع بشكل حاد استجابة للعرض والطلب في جزء كبير من الاقتصاد العالمي.

وتُظهر الأرقام البريطانية من موقع قوائم الوظائف أن المهن التي شهدت انخفاضًا حادًا في اهتمام الباحثين عن عمل، مثل خدمات الطعام والبناء والتصنيع، تشهد أيضًا نموًا مرتفعًا في الأجور.

وكانت الأجور أعلى بنسبة 10% تقريبًا مما كانت عليه قبل انتشار الوباء في بعض الحالات. ففي الولايات المتحدة، يتزامن انخفاض اهتمام الباحثين عن عمل في البناء بنسبة 27% مع أكبر زيادة في الأجور في القطاع منذ 40 عامًا.

وفي كثير من الحالات، يعني نقص العمالة أن الشركات تقدم ترتيبات عمل مرنة لتأمين المواهب.

وتقول غريس لوردان، مديرة مبادرة الدمج في كلية لندن للاقتصاد، لـ"بي بي سي"، إن هذه الممارسة يمكن أن تزيد من تقييد الفرص أمام المرشحين عديمي الخبرة.

وتضيف لوردان: "إذا تم تنفيذ العمل الهجين، فمن المنطقي أن توظف شخصًا ذا خبرة، إذ يمكن للموظف الذي تعرفه أن يعمل من المنزل". لكنها تلفت إلى حاجة المدراء إلى المزيد من الوقت لتدريب العاملين المبتدئين.

زيادة الإنتاجية

وتزداد مطالب الموظفين حول العالم بسياسة عمل أكثر مرونة مع إعادة فتح الاقتصادات، وكذا بعدما باشرت بعض الشركات في الضغط على الموظفين للعودة إلى المكاتب، حسبما أفاد مزود كشوف المرتبات ADP في دراسة استقصائية شملت حوالي 33000 شخص في جميع أنحاء العالم.

ووجدت الدراسة أن ثلثي العمال سيفكرون في البحث عن وظيفة جديدة إذا أجبروا من دون داع على العودة إلى المكتب بدوام كامل.

وكانت الشركات قبل كوفيد 19 ترفض طلبات العمل من المنزل بشكل عام، باعتبارها خدمة كبيرة للغاية، وكان المدراء يشككون بقيام الموظفين بأعمالهم في حال غيابهم عن المكتب.

بيد أنّ كوفيد 19، الذي أرغم سكان الكوكب على العمل من منازلهم، أجابهم عن هذا السؤال خلال العامين الماضيين، حيث أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يداومون من المنازل يعملون لساعات أطول. كذلك كانت الإنتاجية خلال الجائحة أفضل من المعتاد.

وفي نهاية العام الماضي، سجّلت العديد من الشركات المدرجة بعضًا من أفضل نتائجها المالية، حيث شهدت كل من شركة أبل وفيسبوك وغوغل ومايكروسوفت أرباحًا قياسية. وسجّل سوق الأسهم أعلى مستوياته على الإطلاق.

ويعود مفهوم أسبوع العمل لمدة خمسة أيام أو 40 ساعة في مكان ثابت إلى ما يقرب من قرن من الزمان، واخترعه هنري فورد، مالك ومؤسس شركة سيارات فورد في عام 1926.

وعلى الرغم من التقدّم التكنولوجي الذي طرأ في هذا العصر، وأتاح للعمال القيام بمهامهم على أكمل وجه ومن أي مكان، إلا أن معظم الشركات لا تزال تتمسّك بالمعايير القديمة، ومنها المباني الكبيرة وبنوك المكاتب، وساعات العمل الثابتة.  

ويبقى هناك جزء من الموظفين الذين يتشوّقون إلى العودة إلى مكاتبهم، بعد أن تسبب العمل عن بُعد في مشاكل لهذه الفئة، وبالتحديد الموظف الذي يقيم في منزل أو شقة صغيرة يتواجد فيها أطفال، حيث يجد صعوبة في التركيز مع الضجيج والتشتيت المستمرّ طوال اليوم.

وقد دفع هذا التغيير في أمكنة العمل لعامين كاملين العديد من الأسر إلى بيع شققها ومنازلها المغلقة وشراء منازل أكبر، حيث يمكن للأطفال الخروج إلى الحديقة، ويُسمح للأهل بتحويل إحدى الغرف إلى مكتب للعمل منها. 

المساهمون