تحوّلت جلسة حوار حول أزمة المطورين الصناعيين في مصر الخميس الماضي، إلى جلسة ساخنة تبحث عن سبل خروج البلاد من عثرتها الاقتصادية، في حال تمكّنت الحكومة من حل لغز المكالمة الهاتفية التي يجريها المستثمرون، بين نظرائهم وموظفي الدولة العميقة، لفك شفرات سوق المال والأعمال.
"إيه النظام" لفظ دارج على ألسنة العامة، يتداول عبر الهواتف، فيتحول إلى كلمة سر، يتخذ المستثمر قراره على أثرها، إما بدفع أمواله في إقامة المشروعات أو الفرار.
وكشف مستثمرون ورسميون خلال ندوة نظمها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، لمناقشة أول دراسة حول: "تقييم تجربة المطور الصناعي في مصر وإمكانات وفاعلية التوسع فيه مستقبلاً"، بحضور ممثلي الحكومي والقطاع الخاص من المطورين الصناعيين، عن خطورة "إيه النظام" على مستقبل الاستثمار، في ظل هيمنة البيروقراطية وجماعات الفساد الإداري، على سلطة تنفيذ القوانين، والقرارات التي تصدرها الدولة والحكومة، بما يحول دون تحويلها إلى أرض الواقع، تدفع إلى زيادة تكاليف المشروعات، وتعطيل تسليم الأراضي بالمناطق الصناعية.
اعترف المستثمرون وحكوميون يمثلون وزارتي الإسكان والصناعة بأنّ حُسن النيات الذي يتوافر بين قيادات الجهات الحكومية، لحل أزمات المستثمرين، خلال دقائق، تعطله تصرفات صغار الموظفين الذين يتبعون 20 جهة رقابية، تتولى الإشراف على المناطق الصناعية. يدس البيروقراطيون أنوفهم في كتابة العقود، والتدقيق في دراسات جدوى مشروعات القطاع الخاص، الذي يتحمل بمفرده المخاطرة في إنشائها.
ويعيد البيروقراطيون صياغة القوانين وفق أهوائهم، وكأنهم يعيدون "اختراع العجلة" بما عطّل إقامة مشروعات صناعية حيوية في مناطق مختلفة بالدولة، ويحرمها من القدرة على منافسة دول مجاورة أصبحت جاذبة للمستثمرين المصريين الهاربين من "إيه النظام" التي تحدد للمستثمر ماذا يدفع لإتمام مشروعه، ونوعية ومواعيد الأرباح التي سيحققها إذا التزم بما يطلبه الجهاز البيروقراطي بالدولة.
وأظهرت المناقشات أنّ الحكومة ما زالت تنظر إلى المستثمر على أنه منافس لها، بما يدفعها إلى وضع قوانين تقيّد حركته، باعتبارها وصياً على ماله، تخشى تحقيقه نتائج لا تستطيع مؤسساتها القيام بها، فإذا وفرت له أرضاً ليقيم عليها مشروعات، تحرمه من توصيل المرافق، أو تتعارك الجهات الحكومية المسؤولة عن الأرض والمرافق لسنوات، ما يدفع إلى تباطؤ الأعمال أو إخراج المستثمر عن نشاطه، بينما تجري مضاربات على الأراضي وأسعارها.
كما بيّنت المناقشات وجود تكامل في الرؤي بين القادة الحكوميين والمستثمرين، حول ضرورة أن تتوقف الحكومة عن ممارسة دور المشغل للمناطق الصناعية، وأن تصبح مجرد منسق يعمل على استقطاب الفرص الاستثمارية، وتوفير الأراضي بأقل تكلفة، على أن يتولى القطاع الخاص التنفيذ والتشغيل والصيانة، بينما تتمسك بدخولها في كتابة عقود مناطق التطوير الصناعي، كطرف ثالث بين المطور والمستثمر، بما يقحمها في كتابة عقود نمطية، تبدل القوانين والإجراءات السهلة للعقود الخاصة، ويدفع باستمرار وجود الجهات الرقابية، لتمرير كل ورقة، وفقاً لتصريحات المطورين المشاركين بالندوة.
وتقف الحكومة عاجزة، عن إتمام مخططات التطوير الصناعي منذ سنوات، وجعلها في مرتبة متدنية عمن حولها بالسعودية والإمارات التي اقتحمت الجيل الثالث لإدارة المخططات الصناعية، عبر الأنظمة الرقمية التي تحول دون تدخل صغار الموظفين، وخضوع كل المعلومات والمستندات للرقابة المباشرة، بما يمنع الفساد، ويضمن سرعة تنفيذ الأعمال، بينما تقف في لحظة تاريخية فارقة تعاني من ندرة الاستثمار وشح الدولار، وتغيير جذري في مخططات سلاسل التوريد، تسعى إلى ضم مصر في منظومتها، في فرصة يعتبرها مستثمرون تاريخية لن تتكرر، تهدد بانهيار اقتصادي إذا لم تتمكن الحكومة من استثمارها على الوجه الأمثل.
ويطالب المستثمرون ببناء الثقة، بين الحكومة والمستثمر، وتوحيد جهات التعامل على أراضي المطورين الصناعيين، وشفافية المعلومات، وعدم المغالاة في سعر الأراضي، ووضوح التشريعات ودمجها، ورؤى استراتيجية واضحة لعقود لا تقل عن 20 عاماً، ومنح القطاع الخاص سلطة اعتماد توصيل المرافق والخدمات، وحل المشاكل التي تسمح بدخول صغار الموظفين في توجيه الأعمال والتلاعب بالمستثمرين.
وقال مستثمرون إنّ انعقاد المجلس الأعلى للاستثمار بقيادة رئيس الدولة والقرارات التي اتخذتها الحكومة، الخميس الماضي، بشأن دفع معدلات الاستثمار، لن يكون لها قيمة على أرض الواقع، إلا إذا خلصت النوايا، في التغيير وحل أزمة الدولار وكبح التضخم وتراجع قيمة الجنيه، وإلغاء التضارب بين الجهات الحكومية، والقضاء على المدفوعات السرية للموظفين، وعدم التدخل في حرية القطاع الخاص بالمخاطرة في استثمارات يتولى تمويلها بنفسه، ومعاملة المطورين الصناعية أسوة بالمستثمرين الأجانب، في ظل إطار مؤسسي لا تبحث فيه كل جهة حكومية عما تجنيه من أموال خاصة بها، بل في ظل العائد الذي سيجنيه الاقتصاد الكلي للدولة.
في استبيان أجرته دراسة المركزي حول أسباب اختيار المطور الصناعي، أكد 83% من المستثمرين أنهم يختارونه لسهولة تخصيص الأرض والإجراءات اللازمة، وتوفير بيئة صالحة للاستثمار بأسلوب حضاري ومشجع للاستثمار الأجنبي، وجودة الخدمات المقدمة، ووجود خيارات متعددة من أرض ووحدات مبنية بمساحات مختلفة، وحسن التخطيط للمنطقة، وتوفر الآليات للمساعدة في كل الطلبات، وكيفية عمل استثمار جديد. وأرجعت الدراسة أسباب نجاح تجربة المطور الصناعي لاعتماده على نموذج أعمال يختلف عما هو مطبق من خلال الجهات الحكومية ذات العلاقة.
وكشفت الدراسة عن وجود تحديات أمام المطور الصناعي، منها تعدد جهات الولاية على الأراضي الصناعية، وغياب مخطط استراتيجي قومي للأراضي، وغياب فلسفة طرح الأراضي للمطور، وعدم وضوح الإطار القانوني الذي يعمل من خلاله، وغياب المرجعية التي يجري على أساسها تعديل قواعد الطرح، وازدواجية الدور الذي تقوم به جهات الولاية.
وأكدت أنّ زيادة الاستثمار والتصدير هما طوق النجاة لخروج مصر من الأزمة الحالية بشكل مستدام، وأنّ المطور الصناعي هو الوسيلة الأسرع والأكثر كفاءة اقتصادياً للمساهمة في الهدفين، بما يتطلب إصلاح الخلل في العلاقة بين الحكومة وطرفي المنظومة "المطور والمستثمر" الذي يحد من الاستثمار الصناعي.
ودعت الدراسة إلى تعظيم الاستفادة من المطور الصناعي عبر أربعة محاور؛ تتمثل في حل المشاكل الإجرائية التي يعانى منها المطور، وضمان عدم مزاحمة الحكومة للمطور الصناعي، واقتصار دخولها بشكل تنفيذي بالمناطق التي يصعب على المطور العمل فيها، ووجود رؤية واضحة للحكومة عن أهمية دور المطور الصناعي، وتسهيل حصوله على الأراضي لتحقيق زيادات سريعة في الاستثمار، وتوفير المعلومات عن مجالات الاستثمار لمساعدة المطور في الترويج.
وأكدت أن الحل الجذري للمشكلة يتمثل في تغيير نظرة الحكومة للمطور الصناعي من منافس إلى شريك، يساعدها على تحقيق مستهدف جذب الاستثمار الصناعي، وتحقيق التنمية الصناعية.
كما بينت الدراسة أنّ 19 منطقة صناعية أقيمت من خلال المطور الصناعي، تشكل نحو 11.5% من إجمالي المناطق الصناعية المقامة على مستوى الجمهورية، بينما طرحت هيئة التنمية الصناعية، 17 منطقة، تمثل 89.5% من عدد المناطق الصناعية المقامة، تقدر مساحتها الإجمالية بـ22.7 مليون متراً مربعاً، بتكلفة 32.9 مليار جنيه. (الدولار= 30.85 جنيهاً).
وتمتلك الحكومة منطقتين تابعتين للمجتمعات العمرانية، والهيئة الاقتصادية لقناة السويس.
وتوجد 13 منطقة استثمارية للمطورين الصناعيين، في مدن 6 أكتوبر والعاشر من رمضان، و4 بمدينة السادات، والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس والعلمين الجديدة.
وأوضحت الدراسة أنّ المطور الصناعي ساهم بتطوير 80% من إجمالي الأراضي الصناعية حتى 2016، وأن كل مليون متر مربع يجري تطويره، يجذب استثمارات في المتوسط من 1-2 مليار دولار، بخلاف استثمارات تطوير البنية التحتية، تقدر بنحو 500 مليون جنيه، بأسعار ما قبل تعويم الجنيه، لكل مليون متر مربع، بدون ثمن الأرض.
وتعمل 70% من إجمالي عدد الشركات العاملة في مناطق المطور الصناعي، في الصناعات الهندسية، والغذائية والكيماوية والمنسوجات، تشكّل 76% من إجمالي الشركات العاملة في الصناعات التحويلية، و44% من إجمالي القيمة المضافة منها، نجحت في جذب شركات محلية وعالمية، والاستثمار الصغير والمتوسط.