مصرف لبنان: أزمة حوكمة لا أزمة حاكم

22 مايو 2023
محتجون يرفعون لافتات تندد بسياسات محافظ المصرف المركزي اللبناني (جوزف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -

في نهاية شهر يوليو/ تمّوز المقبل، من المفترض أن تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة السادسة، ليختتم بذلك ثلاثين عاماً أمضاها على رأس المصرف المركزي.

وفي الوقت الراهن يرجّح البعض مغادرة الرجل منصبه قبل هذا الموعد، في ضوء الملاحقات القضائيّة الجارية بحقّه في العديد من الدول الأوروبية، بشبهات الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال واختلاس الأموال العامّة.

مع الإشارة إلى أنّ سلامة مدّعى عليه في لبنان أيضاً بالشبهات نفسها، وبموجب طلب من أعلى سلطة ادعاء عام في الجمهوريّة اللبنانيّة، أي النيابة العامّة التمييزيّة. كما انضمّ حاكم مصرف لبنان، قبل أيام إلى لائحة النشرة الحمراء لدى الإنتربول الدولي، والأسبوع الماضي أصدرت قاضية فرنسية مذكرة توقيف دولية بحق رياض سلامة.

هذا المشهد دفع كثيرين للتفاؤل بإمكانيّة فتح صفحة جديدة على مستوى السياسة النقديّة وإدارة القطاع المصرفي بمجرّد رحيل الرجل الذي ارتبط اسمه بالكثير من الفضائح المدوّية، التي لا تنسجم مع السمعة الحسنة التي يفترض أن يتحلّى بها المؤتمن على سلامة النقد الوطني والنظام المالي.

وكان قد ارتبط اسم سلامة بالسياسات غير التقليديّة التي اتبعها قبيل حصول الانهيار المالي، والتي ساهمت في تكبيد القطاع المصرفي كتلة هائلة من الخسائر على حساب أموال المودعين، مقابل ضخ كميّة من الأرباح لصالح النخبة الماليّة النافذة في القطاع.

باختصار، ثمّة ما يكفي من أسباب لتدفع عموم اللبنانيين لاستعجال رحيل هذا الشخص من منصبه، بل والاستبشار خيراً بمن سيأتي بعد رحيله. ويكفي أن تصف تقارير البنك الدولي والأمين العام للأمم المتحدة ما حصل في مصرف لبنان بالمخطط الاحتيالي، أو "البونزي سكيم" كما يُعرف بالإنكليزيّة، حتّى يدرك المرء أنّ شيئاً ما لن يستقيم في هذا المصرف المركزي قبل تغيير مهندس المخطط الذي أودى بأموال المودعين. وهذا التشخيص الصريح لا يقلّل بطبيعة الحال مسؤوليّة الطبقة السياسيّة وأصحاب القرار في السلطة التنفيذيّة، المسؤولين بدورهم عن ارتكابات جسيمة لا تقل وطأة عن ارتكابات سلامة.

ومع ذلك، ورغم أهميّة حصول تغيير على مستوى حاكميّة المصرف المركزي، عبر تعيين شخصيّة جديدة في هذا الموقع، من المهم القول إنّ هذه الخطوة لن تعالج وحدها مكامن الخلل في طريقة إدارة المصرف المركزي. إذ ثمّة ثغرات تنظيميّة وقانونيّة كبيرة داخل المصرف، ما سمح بتراكم كل هذه الارتكابات خلال السنوات الماضية، بعيداً عن أي رقابة أو مساءلة. ومن الأكيد أنّ بقاء هذه الثغرات في المستقبل سيسمح بتكرار السيناريو نفسه، وربما بأشكال أسوأ، ولو تم تغيير الحاكم.

أولى هذه الثغرات تتصل بمهمّة الرقابة على ميزانيّة المصرف المركزي، وكيفيّة التصرّف بأمواله، التي هي بحكم القانون أموال عامّة. ومن المعلوم أنّ هذه الصلاحيّة مناطة بحكم القانون بمفوضيّة الحكومة لدى المصرف، التي تملك صلاحيّة وضع البرنامج السنوي لمراقبة حسابات المصرف، والتدقيق في ميزانيّته، والتحقق من قانونيّة اجتماعات المجلس المركزي، الذي يضع السياسة النقديّة العامّة.

وكما بات واضحاً اليوم، لم تلعب هذه المفوضيّة خلال العقود الماضية أي دور على مستوى كشف المخالفات الجسيمة الحاصلة، إلى أن انفجرت الأزمة الراهنة، التي كشفت ما تراكم من ارتكابات وخسائر على امتداد سنوات طويلة سابقة.

وبشكل عام، لا يعلم اليوم معظم اللبنانيين بوجود هذه المفوضيّة، حتّى بعد حصول الانهيار، الذي كان يفرض السؤال عن الجهة المسؤولة عن مراقبة ميزانيّة المصرف العامّة وملاءته وطريقة تصرّفه بالمال العام.

ولعلّ أكثر ما يعبّر عن الدور الشكلي والهامشي الذي تلعبه هذه المفوضيّة هو الشغور القائم منذ زمن في منصب المفوّض، الذي يجب أن يدير المفوضيّة ويشرف على أعمالها الرقابيّة.

أمّا المفارقة، فهي أنّ اللبنانيين يتساءلون اليوم عن مصير التدقيق الجنائي، الذي كان يفترض أن تجريه شركة استشاريّة أجنبيّة في ميزانيّات المصرف المركزي، في حين أنّ هناك مفوضيّة مختصّة بالتدقيق في أرقام المصرف على نحوٍ دوري.

مع الإشارة إلى أنّ هذه المفوضيّة تملك بحكم القانون حق الاطلاع على جميع سجلّات المصرف ومستنداته وصناديقه وحساباته، كما يحق لها أن تطلب في أي وقت تشاء تزويدها بأي معلومات أو إحصاءات. وهذا تحديداً ما كان سيسمح للمفوضيّة بلعب الدور نفسه المنتظر من قبل شركة التدقيق الجنائي، التي لم تنجز تقريرها حتّى الآن بفعل العراقيل السياسيّة المحليّة.

وإذا كانت السلطة السياسيّة مسؤولة عن الشغور الوظيفي القائم حالياً في هذه المفوضيّة، وعن الاستهتار التاريخي بضرورة رفدها بالموارد البشريّة اللازمة، فالقوانين مسؤولة أيضاً عن محدوديّة الصلاحيّات الممنوحة للمفوضيّة. فرغم امتلاك المفوضيّة صلاحيّة الاطلاع على الميزانيّة العامّة ومراقبة العمليّات الماليّة، فإنّ القانون يحد من قدرة المفوّض على التدخّل في القرارات المتصلة بإدارة المصرف.

في الوقت نفسه، يعطي القانون اللبناني لجنة الرقابة على المصارف، في مصرف لبنان، صلاحيّة السهر على حسن تطبيق المصارف للنظام المصرفي، لمنعها من التورّط في المحظورات التي يمكن أن تشكّل خطراً على سلامة النظام المالي.

بمعنى آخر، كان من المفترض أن تحرص هذه اللجنة على منع المصارف اللبنانيّة من القيام بالمجازفات التي جرت سابقاً، وأدّت إلى تبديد أموال مودعيها. وكما صار معروفاً اليوم، لم تنجح اللجنة، ولا المصرف المركزي بشكل عام، في لعب هذا الدور خلال السنوات الماضية.

أسباب الفشل في أداء هذا الدور الرقابي مفهومة وواضحة. فالقانون اللبناني أعطى اللجنة استقلاليّة خاصّة داخل مصرف لبنان، لمنع أي تضارب في المصالح بين دورها الرقابي البحت، والدور التنظيمي لسائر أقسام المصرف المركزي، ومنها الحاكميّة نفسها.

لكن رغم هذه الاستقلاليّة الإداريّة، لم يعط القانون اللجنة صلاحيّة التصرّف إزاء أي مخالفة يمكن أن تجدها، إلا عبر مراسلة حاكم المصرف المركزي. وبذلك، باتت مهام اللجنة الرقابيّة مقيّدة بإرادة الحاكم، الذي يدير وينظّم القطاع في الوقت نفسه، ما خلق تضارباً في المصالح لدى الحاكم.

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم عجز اللجنة عن التصرّف إزاء العديد من المجازفات والمخالفات التي قامت بها المصارف اللبنانيّة خلال السنوات الماضية. فجميع هذه المخالفات جرت بالتنسيق مع حاكميّة المصرف المركزي، بل ومن خلال عمليّات نظّمها الحاكم نفسه. وهكذا، لم تمتلك حاكميّة مصرف لبنان المصلحة في معاقبة المصارف على الممارسات الخطرة، حتّى لو تم اكتشافها من قبل لجنة الرقابة على المصارف.

وأخيراً، ركّزت القوانين اللبنانيّة كتلة ضخمة من الصلاحيّات بيد الحاكم نفسه، ومنها على سبيل المثال صلاحيّة ترؤّس هيئة التحقيق الخاصّة، التي تختص بمكافحة تبييض الأموال داخل النظام المصرفي. وهذا الثغرة بالتحديد هي التي سمحت بتوريط المصارف اللبنانيّة في عمليّات تنطوي على شبهات تبييض أموال لمصلحة الدائرة المحيطة بحاكم مصرف لبنان، كما تشتبه المحاكم الأوروبيّة اليوم. وكما أصبح واضحاً الآن، لم يكن الحاكم، الذي يرأس هيئة التحقيق الخاصّة، ليمتلك المصلحة في تقصّي العمليّات المشبوهة، كونه كان هو نفسه المستفيد من هذه العمليّات.

وفوق كل ذلك، تضع حاكميّة مصرف لبنان يدها على مجموعة من الأنشطة والشركات التجاريّة التي يملكها المصرف، دون أن تتصل بمهامه كمصرف مركزي. وهذا ما ينطبق مثلاً على كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط وشركة إنترا التي تمتلك محفظة عقاريّة ضخمة. وعلى مرّ العقود الماضية، دار الكثير من السجال حول طريقة إدارة هذه المؤسسات، وعن جدوى احتفاظ مصرف مركزي بهذا النوع من الشركات البعيدة عن دوره الطبيعي.

لكلّ ما سبق ذكره من أسباب، ثمّة الكثير من الخطوات التي يجب القيام بها لتحسين إدارة المصرف المركزي، والتخلّص من الثغرات القانونيّة والتنظيميّة في عمله، بمعزل عن هويّة الحاكم المقبل لمصرف لبنان. أمّا الأهم، فهو أن تختار السلطة التنفيذيّة الحاكم المقبل على أساس مشروعه لمعالجة الأزمات النقديّة والمصرفيّة، وعلى أساس خطته لإصلاح حوكمة المصرف، بدل أن يكون هذا التعيين جزءاً من عمليّة تحاصص المواقع الأساسيّة بين القوى السياسيّة المحليّة.

المساهمون