مأزق عجز ميزان المدفوعات المصري

09 ديسمبر 2020
محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر في إحدى المؤتمرات الصحفية
+ الخط -

كشف البنك المركزي المصري الأسبوع الماضي عن تطورات ميزان المدفوعات في بلاده، التي أرجعها لتداعيات فيروس كوفيد-19، حيث أظهرت المؤشرات تحقيق عجز كلي بلغ نحو 8.5 مليارات دولار خلال العام المالي 2019-2020 المنتهي بنهاية يونيو / حزيران الماضي، مقابل ما سبق أن أعلن عنه باعتباره عجزاً محدوداً لم يتجاوز 103 ملايين دولار خلال العام المالي السابق. ولم يفوت البنك المركزي الفرصة، حيث جاء في بيانه ما يعني أنه لولا "نجاح سياسات الإصلاح الاقتصادي التي انتهجتها الحكومة المصرية، كما الخطوات الاستباقية التي اتخذها البنك المركزي لما استطاع الاقتصاد المصري استيعاب آثار الصدمة المالية العالمية الناشئة عن الأزمة".

فاجأ الرقم الملايين ممن سلموا أنفسهم لأجهزة الإعلام المصرية واعتبروا كل من يتحدث بأرقام تخالف ما يسمعونه منها خائناً أو متآمراً أو مرتزقا، رغم أن ميزان المدفوعات المصري يعاني عجزاً مزمناً منذ عقود، باستثناء سنوات قليلة شهدت إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً، على يد ثلاثة وزراء ماكرين اجتمعوا في لحظة مضيئة في تاريخ مصر، هم رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة ويوسف بطرس غالي وزير المالية ومحمود محيي الدين وزير الاستثمار، خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. وباستثناء تلك الفترة، سيطر العجز على ميزان المدفوعات المصري لأن الخارج من البلاد من العملة الأجنبية يزيد عن الداخل إليها.
كان السبب الرئيسي للمفاجأة التي تعرض لها المصريون أن أرقام البنك المركزي المعلنة كانت في كثير من الأحيان تشير إلى وجود فائض، أو إلى وجود عجز ضئيل، وغالباً ما كان يتم إرجاعه إلى بعض العوامل التي لا يمكن للحكومة التحكم فيها. لم يكن البنك المركزي ينشر أرقاماً غير حقيقية، إلا أنه كان يلجأ لبعض الحيل التي يمكن من خلالها خداع الكثيرين وإظهار ميزان المدفوعات في صورة أفضل كثيراً من الحقيقة. 

لم يتبع البنك المركزي الأعراف المعمول بها في كل الاقتصادات، والتي تقيس عجز أو فائض ميزان المدفوعات من خلال نتيجة تعاملات الميزان التجاري والحساب الجاري والتعاملات الرأسمالية، قبل أن تضاف إليها القروض التي تلهث وراءها الحكومة المصرية، فكان يعرض رصيد ميزان المدفوعات بعد أن تضاف إليه القروض التي ينجح في الحصول عليها من صندوق النقد الدولي أو المؤسسات المالية الأخرى، والودائع التي يحصل عليها من دول الخليج، وتحديداً السعودية والإمارات، بالإضافة إلى السندات التي يطرحها بالعملة الجنبية في البورصات الدولية، ليظهر الميزان فائضاً غير حقيقي، ويسبب للمصريين حالة من النشوة الزائفة، فَضَّل الكثيرون منهم التسليم بأنها حقيقية. 
قبل عامين تقريباً، سألت مسؤولا كبيرا سابقا في الحكومة المصرية عن صحة ما تقوم به الحكومة من الإعلان عن رصيد الميزان بعد الاقتراض من الخارج، فكانت إجابته الجاهزة أن "الكثير من الاقتصادات الكبرى تفعل ذلك"، متناسياً أن تلك "الاقتصادات الكبرى" لا تسعى للاقتراض، وإنما يسعى إليها المستثمرون، ومنهم بنوك مركزية في العديد من الدول، بحثاً عن أدوات استثمار ذات درجة أمان مرتفعة، تجعلهم يلهثون وراءها، حتى لو انخفض العائد عليها.
لا تجد الحكومة المصرية غضاضة في التوسع في الاقتراض بالصورة التي أوصلت الدين الخارجي في مصر لمستويات غير مسبوقة، حيث تجاوز رصيده بنهاية يونيو/حزيران الماضي 123 مليار دولار، دافعة على طول الخط بأنه ما زال في الحدود الآمنة، وأنه لم يتجاوز 40% من الناتج المحلي الإجمالي. 
لكن هناك مأخذين على هذا الدفع، أولهما أن النسبة التي تراها الحكومة المصرية منخفضة من الناتج المحلي الإجمالي ليست ذات دلالة في الوقت الحالي، كون الديون الخارجية تسدد بالعملة الأجنبية والحساب الجاري يعاني عجزاً، وثانيهما أن الحكومة أصلاً غير معترفة بأن عجز ميزان المدفوعات المستمر هو المتسبب الرئيسي في زيادة الدين الخارجي، لأنها في الواقع لا ترى عجزاً، وإنما ترى فائضاً تم تخليقه من القروض التي نحصل عليها من الخارج، والتي تم إدخالها قبل حساب رصيد ميزان المدفوعات.

النقطة التي أحاول شرحها من الممكن تبسيطها من خلال المبدأ التالي: رصيد ميزان المدفوعات الحقيقي في أي عام يمكن الوصول إليه من خلال معرفة تطور الدين الخارجي من العام السابق له، مع حسم أي زيادة في رصيد احتياطي النقد الأجنبي للبنك المركزي، أو إضافة أي نقص فيه.
ولو أردنا تطبيق تلك المعادلة البديهية على الحالة المصرية فيما يخص العام المالي المنتهي قبل ستة أشهر تقريباً، والذي قدرته الحكومة المصرية بنحو 8.5 مليارات دولار، نلاحظ أن الزيادة في الدين الخارجي بين رصيد 30 يونيو 2019، ونفس اليوم من العام التالي، بلغت 17 مليار دولار (من 106 إلى 123 مليارا)، يضاف إليها الانخفاض الذي حدث في رصيد احتياطي النقد الأجنبي خلال نفس الفترة، والذي بلغ نحو 7 مليارات دولار ( من 45 إلى 38 مليارا)، وهو ما يعني أن إجمالي عجز ميزان المدفوعات لا يقل عن 24 مليار دولار، هي حاصل جمع المبلغين.
استمرار العجز في ميزان المدفوعات لن تكون له نتيجة إلا ارتفاع القروض الخارجية عاماً بعد عام، وهو ما حدث بالفعل خلال السنوات الخمس الماضية، وما تقدر كل مراكز الأبحاث ومؤسسات التمويل الدولية المتابعة للاقتصاد المصري استمراره خلال السنوات القادمة، طالما بقي هذا العجز، وطالما استمرت سياسة الدولة في قصر التعامل مع تلك القروض على مد أجل الديون، وتجديد الودائع، والتوسع في إصدار أنواع جديدة من السندات، ثم إبلاغ كل ذلك للرأي العام على اعتبار أنها من ضمن الإنجازات المحققة. 
عالِجوا الخلل في ميزان المدفوعات، وضعوا حداً "ملزما" للاقتراض، وأخبروا الشعب بالحقائق، ولا تخدعوهم بالأموال الساخنة التي تأتي طمعاً في معدلات الفائدة المرتفعة، ثم لا تلبث أن تتسرب مع أي اضطراب في الأسواق، وإلا فالأسوأ قادم لا محالة.

المساهمون