بات حاكم المصرف المركزي اللبناني، رياض سلامة، ملاحقاً من قبل المحققين القضائيين والنيابات العامّة في سبع دول أوروبيّة مختلفة، على خلفية الاتهامات المتصلة بتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والفساد وسوء استعمال موقعه الوظيفيّ، وهي جميعها اتهامات يُفترض أن تضع بقاءه في منصبه على المحك.
مع الإشارة إلى أن القضاء اللبناني يحقق في الوقت نفسه باتهامات لا تقلّ خطورة، ترتبط باختلاس المال العام، دون أن تتمكّن المحاكم المحليّة من تخطّي الغطاء السياسي السميك الممنوح لسلامة، من قبل السلطة السياسيّة.
من الناحية العمليّة، يمنح قانون النقد والتسليف اللبناني حاكم المصرف المركزي استقلاليّة وحصانة قانونيّة استثنائيّة، لتحييد عمله عن مكائد السياسة وتأثيراتها، بالنظر إلى حساسيّة وظائف المصرف المركزي، وخصوصاً تلك المتعلّقة بخلق النقد والحفاظ على سلامة النظام المالي ووسائل الدفع.
رياض سلامة، ملاحق من قبل المحققين القضائيين والنيابات العامّة في سبع دول أوروبيّة مختلفة منها سويسرا
أمّا اليوم، فباتت حصانة الحاكم القانونيّة وصلاحيّاته مكرّسة لحمايته من جميع هذه الملاحقات القضائيّة، بدل أن يكون دورها الأوّل تحييده وتنزيهه عن تأثيرات الحياة السياسيّة اليوميّة. ولعلّ حجم الصلاحيّات التي منحها القانون للحاكم سهّل إساءة استعمال حصانته بهذا الشكل، في وجه المحاكم الأجنبيّة واللبنانيّة.
فعلى سبيل المثال، يرأس حاكم المصرف المركزي بحكم موقعه، هيئة التحقيق الخاصّة، التي تحتكر بحسب القانون صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة عن أي حساب مصرفي، وتزويد القضاء بأي معلومات مصرفيّة يمكن أن يحتاجها في إطار الدعاوى المرفوعة لديه.
وبحسب القانون، تبتّ هيئة التحقيق الخاصّة، وبشكل استنسابي، بطلبات رفع السريّة المصرفيّة التي يرسلها القضاء، دون أن يكون هناك أي طريقة للطعن بقرارات الهيئة بعد صدورها.
وباستعمال صلاحيّته كرئيس لهذه الهيئة، ومن خلال سطوته على أعمالها وقراراتها، تمكّن سلامة من عرقلة تزويد القضاء اللبناني بأي معلومات مصرفيّة متعلّقة بالتهم الموجهة إليه. لا بل تمكن أيضاً من عرقلة تزويد المحاكم الأجنبيّة بهذه المعلومات، عندما طلبتها من الجانب اللبناني.
لم يكن ذلك سوى مثال واحد من بين عدد لا يُحصى من الأمثلة، التي تدل على كيفيّة استعمال رياض سلامة لنفوذه وموقعه وصلاحيّته، في سبيل عرقلة التحقيقات التي تتقفّى أثر ارتكاباته.
من الطبيعي السؤال عن سبب تمسّك النخبة السياسيّة بالحاكم في منصب، بالرغم من فداحة التهم الموجّهة إلى رياض سلامة محليّاً وفي الخارج
ولهذا السبب بالتحديد، بات من الطبيعي السؤال عن سبب تمسّك النخبة السياسيّة بالحاكم في منصب، بالرغم من الحصانات والصلاحيّات التي يمنحها هذا المنصب لسلامة في وجه التحقيقات، وبالرغم من فداحة التهم الموجّهة إلى سلامة محليّاً وفي الخارج.
مع الإشارة إلى أن حساسيّة هذه التهم، ترتبط بإشراف الرجل على بلد يمرّ بأزمة ماليّة نقديّة لم يشهدها في تاريخها، ما يحتاج إلى نزاهة استثنائيّة تكفل عدالة مسار توزيع الخسائر والتعامل معها خلال مرحلة التصحيح المالي.
على أي حال، لم تكتفِ السلطة السياسيّة بالإبقاء على سلامة في موقعه على هذا النحو، رغم كل الالتباسات التي أحاطت بقراراته منذ حصول الانهيار المالي، ورغم ما نتج من ذلك من عرقلة للتحقيقات، بل ذهبت إلى حد وضع خطوط حمراء سياسيّة تمنع المسّ بأشكال مختلفة.
من هذه الخطوات مثلاً، مقاطعة لبنان للاجتماعات التنسيقيّة التي تُعقد في أوروبا بين الدول التي رُفعت فيها دعاوى ضد سلامة، لتبادل المعلومات وطلبات المعلومات، رغم أن لبنان يُعد إحدى الدول التي يحقق نظامها القضائي في ارتكابات الرجل.
وهذه الخطوة لم تهدف فقط إلى التمنّع عن تزويد القضاء الأوروبي بالمعلومات التي يحتاجها من لبنان، بل هدفت أيضاً لمنع القضاء اللبناني من التزوّد بالمعطيات التي باتت متوافرة حول سلامة لدى المحققين الأوروبيين.
في مكانٍ آخر، كان رئيس الحكومة اللبنانيّة يمارس ضغوطه على النائب العام التمييزي، لفرملة المداهمات التي كانت تقوم بها قوّات أمن الدولة بطلب من القضاء، والتي استهدفت جمع المعلومات المتعلّقة بتحويلات قام بها شقيق سلامة إلى الخارج.
وهذا النوع من التدخلات، مثّل ضربة قاصمة لمبدأ الفصل بين السلطات، ومثّل تجاوزاً فادحاً لمبدأ استقلاليّة السلطة القضائيّة وتحقيقاتها. وعلى أي حال، نجح رئيس الحكومة بالفعل في تجميد مهمّة قوّات أمن الدولة، وهو ما حال دون الحصول على المعلومات المطلوبة منذ ذلك الوقت.
لفهم أسباب حرص السياسيين اللبنانيّين على حماية سلامة، بهذا الإصرار، ينبغي العودة إلى الدور الذي أدّاه تاريخيّاً لمصلحة السلطة السياسيّة في لبنان
لفهم أسباب حرص السياسيين اللبنانيّين على حماية سلامة، بهذا الشكل وبهذا الإصرار، ينبغي العودة إلى الدور الذي أدّاه تاريخيّاً سلامة لمصلحة السلطة السياسيّة في لبنان.
فمنذ تعيينه، حوّل سلامة حاكميّة المصرف المركزي إلى باب من أبواب تبادل الخدمات والمصالح مع الزعامات اللبنانيّة، كما فعل في مرحلة الهندسات الماليّة التي قام بها المصرف المركزي.
يومها استفادت المصارف اللبنانيّة - ومنها تلك التي يملكها السياسيون - وكبار المودعين النافذين سياسيّاً من الأرباح الخياليّة لهذه العمليّات، وعلى حساب المال العام، مقابل توظيف الدولارات لدى المصرف المركزي. وبعد أقل من سنة على هذه الهندسات، وافقت السلطة السياسيّة سنة 2017 بإجماع أقطابها على التجديد لسلامة في ولاية كاملة لمدّة ستّ سنوات.
في تلك المرحلة أيضاً، ذهب سلامة بعيداً في عمليّة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة، على حساب تبديد دولارات المودعين في الدفاع عن سعر الصرف، ما خلق فجوة ضخمة من الخسائر داخل القطاع المالي.
وفي المحصّلة، أتى الانهيار المصرفي الذي شهده لبنان، وما نتج منه من تهاوٍ سريع في سعر صرف الليرة وقيمة أجور محدودي الدخل الشرائيّة. في المقابل، كان بإمكان المصرف المركزي تفادي ذلك من خلال خروج مرن وسلس من مرحلة تثبيت سعر الصرف، بدل تكبيد ميزانيّة المصرف كل هذه الخسائر وتحميل المقيمين أثَرَها.
لكن ما حال دون ذلك، كان قيام سلامة بالحفاظ على سياسة تثبيت سعر الصرف لشراء رضا السياسيين في كل مرحلة، الذين لم يرغب أي منهم في تحمّل التداعيات الشعبيّة لتعويم سعر الصرف. وهكذا، دفع اللبنانيون ثمن استرضاء سلامة للطبقة السياسيّة بهذا الشكل.
بعد حصول الانهيار، تحوّل سلامة إلى نقطة الدفاع عن أولويّات المصرفيين الذين ترابطت مصالحهم مع مصالح الزعامات السياسيّة المحليّ
بعد حصول الانهيار، تحوّل سلامة إلى نقطة الدفاع عن أولويّات المصرفيين الذين ترابطت مصالحهم مع مصالح الزعامات السياسيّة المحليّة. فمن خلال موقعه، أطاح سنة 2020 مقاربات خطّة لازارد التي وضعتها حكومة حسّان دياب، والتي انطوت على بنود تحمّل رساميل المصارف جزءاً كبيراً من خسائر الأزمة المصرفيّة، عبر الاقتصاص منها.
ثم ذهب بعيداً في خدمة المصالح المصرفيّة، وعلى حساب سلامة السياسة النقديّة للمصرف المركزي، عبر اعتماد إجراءات طبع النقد بالعملة المحليّة، لسداد الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف مجحفة للمودعين. وفي كل تلك القرارات، كان سلامة يخدم تلاقي المصالح السياسيّة المصرفيّة بإخلاص.
في أماكن أخرى، كان حاكم مصرف لبنان يستعمل صلاحيّاته القانونية لعرقلة التدقيق الجنائي في ميزانيّات المصرف، والحؤول دون كشف خبايا المرحلة السابقة، التي شاركه في ارتكاباتها مروحة واسعة من النافذين في أوساط النخب المصرفيّة والسياسيّة. ومرّة جديدة، بدا للطبقة السياسيّة أن أهميّة بقاء سلامة في موقعه لا تقتصر على حماية مصالحها في المرحلة الحاليّة، بل وأيضاً لمنع فتح ملفّات المرحلة السابقة والتحقيق فيها.
لكل هذه الأسباب، تصرّ الطبقة السياسيّة اللبنانية على حماية سلامة في موقعه، رغم كل التحقيقات القضائيّة، ورغم كل الشبهات التي تحيط به. فالرجل لم يعد يمثّل - في حاكميّة مصرف لبنان - نفسه فقط، بل يمثّل كتلة واسعة من المصالح العميقة داخل النظامين المالي والسياسي، التي لا يمكن الحفاظ عليها إلا بوجوده.