في 2007، عندما سئل وزير الطاقة الجزائري حينها شكيب خليل، عن سبب تأخير إنجاز مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء بين نيجيريا والجزائر، نفى أن يكون ذلك مرتبطاً بتكلفته المالية العالية، بل بعدم وجود مشترين.
كان شكيب خليل حينها واثقاً من قدرة البنوك في الجزائر ونيجيريا وحتى البنك الإفريقي للتنمية على تمويل أنبوب الغاز العابر للصحراء، البالغ تكلفته حينها نحو 13 مليار دولار قبل أن ترتفع إلى نحو 20 مليار دولار، لكن أكبر عقبة كانت تواجه المشروع غياب أسواق لاستيعاب 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري.
إحدى المقترحات التي طرحها حينها شكيب خليل، شراء الجزائر غاز نيجيريا وإعادة بيعه لشبكة زبائنها في أوروبا والعالم.
لكن بعد 14 عاماً من ذلك التاريخ، ازدادت الأمور صعوبة، مع دخول منافسين جدد سوق الغاز، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي تحولت من مستورد إلى مصدر بفضل الغاز الصخري.
كما اكتشف الغاز في شرق المتوسط بكمية هامة، وأطلقت روسيا أنابيب غاز نحو أوروبا بأسعار تنافسية.
وأمام اشتداد المنافسة على السوق الأوروبية، حدث انقلاب جوهري في تعاقدات سوق الغاز العالمية في 2019، بانتهاء زمن عقود الغاز طويلة الأمد (20 عاماً على الأقل)، وبدل الأسعار الثابتة، أصبحت الأسعار خاضعة لتقلبات السوق الحادة.
أحد ضحايا هذه التقلبات كان أنبوب الغاز العابر للصحراء، الذي ارتفعت تكلفته لتصل إلى 20 مليار دولار، ويحتاج لعقود طويلة (ما بين 20 و30 عاماً) لتوريد الغاز وضمان تحقيق أرباح.
تفقد نيجيريا سنوياً 10 مليارات دولار، بسبب حرق الغاز المصاحب للنفط، وتواجه صعوبات كبيرة في تسويقه
كما دخل أنبوب الغاز العابر للصحراء، في منافسة مع مشروع بديل يربط حقول الغاز في دلتا النيجر، ببلدان غرب إفريقيا.
إلا أن أكبر تحدّ واجهه أنبوب الغاز العابر للصحراء، ظهور تنظيم "بوكو حرام" في شمال شرقي نيجيريا، في 2002 وتمدده في المنطقة ثم مبايعته تنظيم "داعش" الإرهابي" في 2015، وتمدد تنظيم "داعش الصحراء الكبرى" في غرب النيجر التي يعبر منها خط الغاز غير بعيد عنها.
كلها أحداث هبت على عكس اتجاه أشرعة أنبوب الغاز العابر للصحراء، وأجلت إنجازه عدة مرات، رغم توقيع نيجيريا والجزائر والنيجر في 2009، اتفاقاً لإنجاز المشروع، وبعدها بأربعة أعوام، أعلن رئيس نيجيريا السابق جوناثان غودلاك، قرب بداية العمل بالمشروع.
انطلاق التنفيذ
إعلان نيجيريا البدء في تنفيذ أنبوب غاز عابر للصحراء يصل إلى غاية شبكة أنابيب الغاز الجزائرية لتصديره إلى أوروبا، في سبتمبر المنصرم، يطرح أكثر من تساؤل حول الأسباب التي دفعت أبوجا للشروع في هذا المشروع الضخم رغم كل التحديات الأمنية والمالية والاقتصادية وحتى السياسية التي عطلت إنجازه طيلة نحو 20 عاماً.
في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، كشف وزير الطاقة النيجيري "تميبري سلفا"، في لقاء مع قناة "CNBC عربية"، أن حكومة بلاده "شرعت في تنفيذ بناء خط أنابيب الغاز لنقل الغاز إلى الجزائر، والتي ستقوم بدورها في مرحلة لاحقة بنقله إلى دول إفريقية (ربما يقصد دول أوروبية) أخرى.
وتزامن هذا التصريح مع إعلان المدير العام لمجمع سوناطراك الجزائري، في 13 سبتمبر، الانتهاء من الدراسات التقنية لأنبوب الغاز العابر للصحراء، وتحديد منطقة عبور الخط، "تبقى الجدوى الاقتصادية المتعلقة بالطلب والعرض والأسعار".
وتكثفت في الفترة الأخيرة اللقاءات والزيارات بين المسؤولين الجزائريين والنيجيريين، آخرها لقاء وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بنظيره النيجيري جيفري أونياما، بنيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما زار وفد من المعهد الوطني للدراسات السياسية والاستراتيجية لنيجيريا (حكومي)، يضم 17 إطاراً سامياً مختصاً في الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية، الجزائر، نهاية أغسطس/آب الماضي، للتعرف على التجربة الجزائرية في مختلف الميادين.
وهذه الزيارات واللقاءات تعكس رغبة كلا البلدين في تعزيز الشراكة ليس فقط في الجانب الاقتصادي بل أيضاً في الجوانب السياسية والعسكرية.
وما دفع نيجيريا لاختيار الخط العابر للصحراء، عدم دفعها لرسوم العبور سوى لدولتين فقط (النيجر والجزائر)، كما أن الجزائر لا تحتاج لغاز نيجيريا ما يرفع الكمية المصدرة.
بلغت احتياطات نيجيريا من الغاز الطبيعي 5.5 ترليونات متر مكعب نهاية 2020 مقابل 2.3 ترليون متر مكعب بالنسبة للجزائر.
فضلاً عن امتلاك الجزائر شبكة من أنابيب الغاز نحو أوروبا ما سيقلص كلفة ومدة الإنجاز، ناهيك عن البنية التحتية التي تمتلكها الجزائر سواء من حيث محطات ضخ الغاز، أو مصانع تسييله، وموانئ تصديره، وكذلك ناقلات الغاز البحرية التي يمكنها أن تنقل الغاز النيجيري إلى الأسواق البعيدة في أقصى آسيا بعد تسييله.
لماذا الآن؟
مع تطور تكنولوجيا إنتاج الطاقة والكهرباء من مصادر متجددة غير ملوثة للبيئة مثل الشمس والرياح والسدود، فإن عصر الوقود الأحفوري (النفط والغاز) بدأ يتراجع ولو بشكل محدود، إلا أن العقود المقبلة قد تشهد أفول عهده الذهبي.
وضمن هذه النظرة الاستراتيجية بعيدة المدى، تسارع نيجيريا الخطى للّحاق بعصر الغاز قبل انتهاء عهده الذهبي.
وفي هذا الصدد، يقول وزير الطاقة النيجيري إن اهتمام بلاده بالغاز "يأتي بهدف الانتهاء من إنتاج كل ما تملكه من غاز، خاصة وأن حقبة الوقود الأحفوري تشارف على النهاية"، لتقوم بعد ذلك باستخدام الموارد المتجددة للطاقة.
وإحدى تجليات نهاية عصر الغاز والطاقة الأحفورية توقف عدة دول ومؤسسات مالية على غرار بريطانيا وألمانيا والدنمارك، وبنك الاستثمار الأوروبي، وصندوق الاستثمار السويدي، وصندوق الثروة السيادي النرويجي، عن الاستثمارات في بعض المشروعات الأحفورية، بما في ذلك الغاز الطبيعي، بحسب موقع "الطاقة".
وتتوجه عدة شركات عالمية للنفط والغاز مثل بريتش بتروليوم وشل وتوتال، لمضاعفة استثماراتها في الطاقة النظيفة، حيث ذكرت وكالة الطاقة الدولية، إنّ هذه الشركات خصصت في العام الماضي، 1 بالمئة فقط من إنفاقها على استثمارات الطاقة النظيفة.
لكن النسبة قد ترتفع إلى 4 بالمئة في 2021، بشكل عام، وإلى أكثر من 10 بالمئة لدى بعض الشركات الأوروبية الكبرى.
غير أن البنك الإفريقي للتنمية، الذي كان مرشحا لتمويل مشروع الغاز العابر للصحراء، "غير قادر على دعم مشروعات الغاز الطبيعي الكبيرة في مواجهة ضغط المساهمين من الأعضاء الأوروبيين".
في الوقت الذي تفقد فيه نيجيريا سنويا 10 مليارات دولار، بسبب حرق الغاز المصاحب للنفط، وتواجه صعوبات كبيرة في تسويقه، بحسب موقع "الطاقة".
غير أن سياسة أبوجا التي ترتكز على تصدير النفط (أكبر منتج للنفط في إفريقيا)، توشك على إعادة النظر فيها من خلال إطلاق مبادرة "عقد تطوير الغاز في نيجيريا" (2020/2030).
حيث شرعت نيجيريا في ربط حقول الغاز في خليج غينيا جنوبي البلاد بأنبوب لنقل الغاز إلى مدينة كانو (شمال) ذات الغالبية المسلمة والمهمشة، عبر خط "أجاوكوتا- كادونا- كانو" (AKK)، والذي انطلق رسميا في يوليو/تموز 2020، وينتظر استكماله في 2022، بحسب موقع "كونستراكشين روفيو أونلاين".
لكن مشروع أنبوب "أجاوكوتا- كادونا- كانو"، يواجه صعوبات في التمويل بسبب انسحاب المقرضين الصينيين، لذلك تبحث نيجيريا عن ممولين جدد.
وبعد إنجاز أنبوب (AKK)، ووصوله إلى مدينة كانو، مركزها الاقتصادي في الشمال، سيتم استكماله نحو النيجر، قبل ربطه بشبكة أنابيب الغاز الجزائرية نحو أوروبا.
وبلغت احتياطات نيجيريا من الغاز الطبيعي 5.5 ترليونات متر مكعب نهاية 2020 (أكبر احتياطي للغاز في إفريقيا)، وفق بيانات شركة بريتيش بتروليوم، مقابل 2.3 ترليون متر مكعب بالنسبة للجزائر.
إلا أن إنتاج نيجيريا في 2020 كان أقل من 50 مليار متر مكعب، مقابل 80.5 مليار متر مكعب بالنسبة للجزائر، في نفس العام.
تحالف أمني
في حال تم تجاوز المعوقات الاقتصادية وعلى رأسها ضمان مشتري للغاز النيجيري لفترة طويلة وبسعر يغطي التكلفة ويحقق الأرباح، فإن العائق الأكبر سيكون المشكل الأمني.
فمسار الخط الغاز يعبر من عدة نقاط ساخنة أمنية، بداية من دلتا نهر النيجر جنوبي نيجيريا، الذي تنشط به عدة مجموعات مسلحة بينها "منتقمو دلتا النيجر"، والتي تستهدف أنابيب نقل الغاز والنفط بالمنطقة.
وكلف إصلاح خطوط الأنابيب (غاز ونفط) 143.6 مليون دولار ما بين يناير/كانون الثاني 2020 إلى يناير 2021، بحسب بيانات شركة النفط الوطنية النيجيرية (إن إن بي سي).
وفي شمالي البلاد، تخوض نيجيريا حرباً صعبة ضد جماعة بوكو حرام، وتنظيم داعش في غرب إفريقيا، ولم تتمكن بعد من حسمها رغم تحالفها مع عدة بلدان (النيجر والكاميرون وبنين، وتشاد).
أما النيجر فتواجه تحديا مزدوجا من بوكو حرام في الجنوب الشرقي، وداعش الصحراء الكبرى من الغرب، لكن خط الغاز يمر بينهما عبر ولاية زيندر، الأكثر أمناً.
وحدها الجزائر التي تعيش في أجواء مستقرة، لكنها مازالت تحت التهديد الإرهابي القريب من حدودها.
وإذا تم إنجاز هذا المشروع، فإن البلدان الثلاثة مضطرة لتأمينه ضد أي عمليات تخريبية تستهدفه، ما يرجح إمكانية تشكيل تحالف أمني ثلاثي على محور "أبوجا- نيامي – الجزائر".
وإن كانت الجزائر تفضل أن تتولى كل دولة تأمين الأنبوب داخل حدودها مع تنسيق العمل الأمني والاستخباراتي، فإن نيجيريا والنيجر ترغبان في تواجد قوات جزائرية جنباً إلى جنب لقتال "بوكو حرام" و"داعش".
كما أن احتمال تواجد عناصر شركة فاغنر الروسية في مالي بالقرب من حدود النيجر، قد يهدد استكمال هذا الأنبوب الغازي، الذي قد يقلص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي.
وفي هذا الصدد، لا يستبعد أن تكون المحادثات التي أجرتها شركة غاز بروم الروسية مع الجزائر، في 24 سبتمبر، بحثت موضوع تأثير أنبوب الغاز العابر للصحراء على مصالحها الاستراتيجية في السوق الأوروبية.
فبناء هذا المشروع تقف أمامه عقبات كثيرة أمنية وسياسية واقتصادية ودولية، لكن نيجيريا ليس لها خيار سوى إنجازه قبل الميل الأخير من انتهاء عصر الوقود الأحفوري.
(الأناضول)