لماذا تتجسس الصين على مونتانا الأميركية؟

06 فبراير 2023
الرئيسان الأميركي والصيني خلال قمة العشرين في إندونيسيا العام الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

وسط احتدام التنافس والحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، تشهد أعمال التجسس لسرقة معلومات عسكرية وتجارية سرية ازدهاراً غير مسبوق، فقد أعلن البنتاغون الأميركي في الثاني من فبراير/شباط الجاري عن رصد تحرُّكات منطاد تجسُّسٍ صيني يحلّق على ارتفاع شاهق بالقرب من القاعدة النووية الأميركية "مالمستروم"، المُلقبة أيضاً بقاعدة "يوم القيامة".

جاءت الواقعة في ولاية مونتانا الأميركية قبل أيام من زيارة أنتوني بلينكن إلى الصين، والتي تعدّ الأولى لوزير خارجية أميركي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018. واتباعاً للأسلوب الأميركي في تبرير ما لا يُبرَّر، صرَّحت ماو نينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، بأنّ الصين تلتزم بالقانون الدولي، وليست لديها نية لانتهاك الأراضي والمجال الجوي لأي دولة ذات سيادة.

تعتبر الصين أكبر تحدٍّ جيوسياسي يواجه الولايات المتحدة وأشرس منافسيها وخصومها، ووصلت التوترات بين البلدين إلى حدود غير مسبوقة نتيجة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في أغسطس/آب 2022، والتي لا تزال أصداؤها تتردد إلى اليوم، لكونها تعدِّياً أميركياً صارخاً على شؤون الصين الداخلية.

تمتلك الصين ترسانة عسكرية ضخمة تحمي إنجازاتها الاقتصادية التي تنافس بها أميركا، الأمر الذي يشكل ضغطاً شديداً وقلقاً متزايداً داخل الولايات المتَّحدة، التي تبذل بدورها قصارى جهدها للحفاظ على ديمومة تفوّقها العسكري بين القوى العالمية الأخرى. جدير بالذكر أنّ القاعدة النووية الأميركية "مالمستروم" تضم 150 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات من طراز Minuteman III ، وهي صواريخ كافية لتدمير كل المعمورة، وكفيلة بتحقيق الإبادة النووية الكاملة، ومُصممة للارتفاع 70 ميلاً فوق الأرض، والتحليق عبر العالم في غضون 25 دقيقة، والانفجار بالقرب من الهدف المحدد.

وفقاً للموقع الإلكتروني الرسمي لقاعدة "مالمستروم"، قُدرت مساهمة هذه القاعدة في الاقتصاد المحلي بما يقارب 384 مليون دولار في عام 2021 و372 مليون دولار في 2019، نظراً لكونها جهة توظيف رئيسية وواحدة من أكبر أرباب العمل في ولاية مونتانا، فقد خلقت 1328 وظيفة غير مباشرة في 2021، حيث تعتبر هذه القاعدة من أهم الشرايين الاقتصادية لولاية مونتانا، إلى جانب الزراعة، نتيجة خلق الوظائف والإنفاق على البناء والخدمات الأخرى كالصيانة والإلكترونيات والاتصالات، وما تتمتَّع به ولاية مونتانا من تنوع كبير في وسائل الراحة ومرافق الترفيه الحديثة، ما هو إلا نتيجة لوجود هذه القاعدة على أراضيها.

ليست فقط الصين من تصوِّب أنظارها على ولاية مونتانا الأميركية، بل روسيا أيضاً، ويكمن السبب في كونها المخزن النووي الأميركي، كما يطلق خبراء الدفاع على هذه الولاية أيضاً اسم "الإسفنجة النووية" "Nuclear Sponge" لكونها الأرض التي من شأنها أن تجتذب الهجوم وتمتصّ بعضاً من أكثر الضربات المروِّعة في حال نشوب حرب نووية بين القوى العظمى.

وفقاً لتقرير صدر عن "The Bulletin of Atomic Scientists" في الثامن من فبراير/شباط 2021 تحت عنوان "لماذا تحصل أميركا على سلاح نووي جديد بقيمة 100 مليار دولار؟"، كان لولاية مونتانا نصيب في الـ 100 مليار دولار المخصَّصة لبناء سلاح دمار شامل جديد، وتطوير نظام دفاع صاروخي أرضي جديد يعرف باسم Ground Based Strategic Deterrent (LGM-35A Sentinel) ليحلّ محلّ صواريخ Minuteman III، والذي سيكون جاهزاً للاستخدام بحلول عام 2029.

وأكد هذا التقرير أن الأسباب الكامنة وراء تجديد النظام الصاروخي تتعلَّق بالدرجة الأولى بالسياسة والصراعات الخارجية والانتقام الأميركي، وليست لها علاقة كبيرة بجعل أميركا أكثر أماناً، كما يتردد على ألسن المسؤولين الأميركيين دوماً.

وفي محاولة لتأليب دافعي الضرائب على السياسيين الأميركيين المنشغلين بالخارج أكثر من الداخل، أفاد التقرير ذاته بأنّه عوضاً عن استثمار مبلغ الـ 100 مليار دولار في تطوير سلاح نووي جديد ليست له قيمة مضافة تفوق القوّة التدميرية للترسانة النووية الأميركية التي تضمّ حوالي 4300 رأس نووي، كان يمكن تسخير ذلك المبلغ المالي لدفع رواتب 1.24 مليون مدرِّس ابتدائي لمدة عام، وتقديم 2.84 مليون منحة جامعية لمدّة أربع سنوات، وتغطية تكاليف علاج 3.3 ملايين مصاب بكوفيد-19، أو كان يمكن استخدام تلك الأموال لاتخاذ تدابير حمائية وبناء جدار ضخم لحماية مدينة نيويورك من ارتفاع مستوى سطح البحر.

إنتاج وتطوير الأسلحة النووية الزائدة عن الحاجة ما هو إلا تدمير حرفي وفعلي للاقتصاد، وعلى ما يبدو لا تتردد كل من أميركا وروسيا في الإنفاق بسخاء على تطوير الأسلحة النووية التي تزيد عن حاجتها، علماً أن الصين تدرك جيداً أن الإنفاق المفرط على الأسلحة النووية سيكون بمثابة تخريب لاقتصادها.

يتعرض برنامج تطوير الصواريخ الأرضية الجديدة إلى وابل من الانتقادات التي تتزايد يوماً بعد يوم، نظراً لانتشار الفقر ومحدودية نطاق شبكات الأمان الاجتماعي وافتقار العديد من المواطنين الأميركيين للتأمين الصحي، ولعل المؤيدين لهذا البرنامج هم أولئك الذين يجدون فيه فرصة لخلق الوظائف في العديد من المجالات كالبناء، الصيانة، إدارة المشاريع، التخزين، التجارة، الإلكترونيات والاتصالات، لا سيما مع وصول نسب البطالة إلى ضعف مستوياتها ما قبل جائحة كورونا.

استمرار الإنفاق الأميركي على التحديث النووي له سبب جوهري آخر يتمثل في إنفاق شركات الدفاع والطيران والأسلحة الأميركية على جماعات الضغط وتبرّعها للسياسيين من أجل دعم حملاتهم الانتخابية، فقد أنفقت صناعة الطيران الدفاعي الأميركية مجتمعة 46.9 مليون دولار على جماعات الضغط في 2019، وتفوقت شركة نورثروب جرومان Northrop Grumman على جميع منافسيها في هذا الصدد، حيث دفعت 13.6 مليون دولار لجماعات الضغط في 2019 و12 مليون دولار في 2020.

جدير بالذكر، أن القوات الجوية الأميركية أبرمت عقداً بقيمة 13.3 مليار دولار مع شركة Northrop Grumman لتطوير هندسة وتصنيع صواريخ LGM-35A Sentinel في سبتمبر/أيلول 2020. خلاصة القول، هوس قادة أميركا بتحقيق الانتصارات في السياسة الخارجية لا رادع له ولا وازع، والتجسس الصيني ما هو إلا ذريعة لسكب المزيد من الزيت على نار الإنفاق العسكري الأميركي، أما فقراء أميركا فلا عزاء لهم.

المساهمون