تنتظر الدول كما التجار نهاية كل عام لإعداد قوائم حسابية بالمداخيل والمصاريف المُتوقعة لتحديد مسارات التنمية وسياساتها الاقتصادية تجاه الدخل والخارج، إلا في لبنان الذي يدخل عامه الحادي عشر من الصرف الاستثنائي بسبب خلاف على إقرار الموازنة العامة للبلاد، حيث تدق بيروت أبواب عام 2016 دون ميزانية.
ويقول مراقبون إن هذا الواقع الذي يؤدي إلى تراجع تصنيف لبنان دولياً وغياب سياسة الإنماء محلياً، إنما أنتجته الخلافات السياسية في البلاد وتبادل اتهامات الفساد المالي والإدراي بين الأطراف السياسية، خاصة "التيار الوطني الحر" (يرأسه النائب ميشال عون)، و"تيار المستقبل" (يرأسه النائب سعد الحريري).
ويعود تاريخ إقرار مجلس النواب لآخر موازنة في لبنان إلى العام 2005، قبل أن يؤدي الخلاف السياسي بين عون والحريري، إلى تجميد الموازنات التي أعدتها الحكومات المتعاقبة دون عرضها على مجلس النواب. فاستمرت الحكومة في تسيير شؤون المواطنين ودفع مستحقاتها من خلال قاعدة صرف استثنائية تُسمى "القاعدة الاثني عشرية" (نسبة إلى أشهر السنة)، وقد نص الدستور اللبناني على اتباعها لأشهر محدودة بانتظار إقرار الموازنة.
تنص هذه القاعدة على قسمة رقم الإنفاق من آخر موازنة على 12 (عدد أشهر السنة) والصرف على أساس هذا الرقم، حتى إقرار الموازنة الجديدة، لكن الحكومات المتعاقبة عمدت إلى طلب فتح اعتمادات مالية استثنائية لتأمين استمرار الصرف، إذ لا يُمكن الاستمرار بنفس موازنة عام 2005 بعد 11 عاماً من غياب الموازنات تم خلالها إقرار رفع الحد الأدنى للأجور وتعيين موظفين في القطاع العام، إلى جانب استمرار العجز في ميزانية مؤسسة كهرباء لبنان والذي تغطيه الحكومة.
*أزمات متتالية
لم تمر سنوات غياب الموازنة دون أزمات، كما يقول الخبير الاقتصادي، ايلي يشوعي، لـ"العربي الجديد". يُعدد الخبير الأزمات المالية التي وقعت فيها الحكومات بسبب غياب الموازنة، "ومنها تخلف لبنان عن سداد مبلغ 100 مليون دولار أميركي لشركة كهرباء دنماركية تعاقدت معها وزارة الطاقة أواخر عام 2014، وتأخر صرف رواتب عدد من موظفي القطاع العام نهاية عام 2015"، وذلك بسبب تأخر فتح اعتمادات استثنائية تحتاج إلى اجتماع الحكومة المُعطلة لإقرارها.
ولم تنفع التحذيرات التي أطلقها وزير المال، علي حسن خليل، بشأن ضرورة "إصدار سندات خزينة بقيمة 1.2 مليار دولار لدفع جزء من المُستحقات على الحكومة التي تبلغ 3.5 مليارات دولار خلال 2015"، في تجاوز هذه المشكلة حتى وقوعها.
اقرأ أيضاً: القروض تستنفر برلمان لبنان المُعطّل
وقد طاول التأخير موازنة وزارة الدفاع ليخرج وزيرها، سمير مقبل، ويُعلن استنكاره لتداول أزمة دفع الرواتب عبر وسائل الإعلام قائلاً: "لم أسمع عن أي بلد في العالم تداول فيه السياسيون والإعلام في مثل هذه القضية الوطنية العليا، ومن غير المقبول أن يجري التداول بها بهذه الطريقة".
ومع تواصل فصول أزمة النفايات المستمرة منذ خمسة أشهر، يتم تداول إمكانية فرض ضرائب جديدة على المحروقات لتغطية كلفة تصدير النفايات إلى الخارج، وهي عملية ستمر ـ إن تم إقرارها رسمياً ـ بشكل استثنائي أيضاً.
وهو ما دفع حملات الحراك الشعبي والمدني في لبنان لمطالبة النيابة العامة المالية بالتحرك والتحقيق في شبهات الفساد التي تطاول ملف النفايات كما مُختلف الملفات الاقتصادية في البلاد.
لا تنمية بلا موازنة
ويؤكد يشوعي أن أثر سياسة الترقيع التي تستمر بها الحكومة الحالية لن تقتصر على الداخل اللبناني فقط بل ستمتد خارجياً أيضاً من خلال تراجع تصنيف لبنان دولياً وتجنب المستثمرين الخارجيين لسوقه.
وفي تقرير سابق، أبقت وكالة التصنيف الدولية "موديز"، للتصنيفات الائتمانية، على نظرة مستقبلية سلبية للنظام المصرفي اللبناني، وعزت ذلك إلى مستوى المخاطر العالية بعدم القدرة على سداد الديون، وضغوط في جودة الأصول من جراء النمو الاقتصادي الضعيف.
وتوقعت "موديز" ارتفاع عجز الميزانية مع اعتماد الحكومة على البنوك المحلية لتمويل نفقاتها.
كما حذر تقرير مؤسسة شراكة الموازنة المفتوحة "IBP" العالمية، من تدني نسبة الشفافية في الموازنة اللبنانية التي تسجل 30%، بسبب "غياب الرقابة الرسمية المتمثلة في مجلس النواب وديوان المحاسبة، والرقابة المجتمعية التي يُفترض بالمواطنين ممارستها".
وفي ظل غياب أرقام رسمية للإنفاق، يُقدر خبراء قيمة الإنفاق العام في لبنان بحدود 19 ترليون ليرة لبنانية (12.7 مليار
دولار) سنوياً، مقسمة بالتساوي تقريباً بين موازنة العام 2005 والاعتمادات الإضافية التي طلبتها الحكومة لتغطية الإنفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية طوال عشر سنوات.
(الدولار الأميركي يساوي 1496 ليرة لبنانية).
اقرأ أيضاً:
لبنان.. 10 سنوات بلا موازنة
لبنان: شخصيات اقتصادية تطلق "إعلان ضد الانتحار"