كأن المتعاملين مع البنوك اللبنانية يحتاجون إلى أسباب ومحفزات إضافية لتهزّ ثقتهم أكثر وأكثر بقطاعهم المصرفي، وتوسّع الهوة بينهم وبين هذا القطاع الحساس الذي من المفروض أن يكون الحارس الأمين لمدخراتهم وأموالهم و"تحويشة" عمرهم.
وبدلاً من أن تفك البنوك القيود الشديدة المفروضة على عملية سحب مدخرات العملاء وتعيدها إلى أصحابها كاملة غير منقوصة، ويتوقف مصرف لبنان المركزي عن السطو على جزء من الودائع عبر إرغام المودعين على سحب أموالهم التي تقلّ عن 3 آلاف دولار أو أقل بالليرة اللبنانية وبسعرها الذي فقد نحو 50% من قيمته، راحت حكومة حسان دياب تسكب الزيت على النار عبر التلويح بالسطو على جزء من الودائع، في إطار ما سمّته بخطتها لمعالجة الوضع الاقتصادي والمالي المتردي، الذي دفعها إلى التوقف عن سداد كل الديون الخارجية.
حسب مسودة خطة حكومية كشفت عنها وكالة رويترز نهاية الأسبوع الماضي، يحتاج لبنان تمويلاً خارجياً من 10 إلى 15 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة لمساعدته على اجتياز أزمته المالية الحادة، إضافة إلى "مساهمة استثنائية من كبار المودعين في المصارف"، في إطار إجراءات للتعامل مع خسائر فادحة في النظام المالي.
وهذه الخطة، كما تقول الحكومة، تأتي ضمن إجراءات أخرى صعبة لإعادة هيكلة مصرف لبنان المركزي والبنوك التجارية وتأسيس صندوق خاص لتعويض خسائر المودعين الناجمة عن إعادة الهيكلة.
وفي تفاصيل الخطة أيضاً، فإن الحكومة اللبنانية ستصادر 10% من أموال كبار المودعين، فيما ستبقى أصول 90% من المودعين محفوظة، كما ذكر رئيس الوزراء.
تأتي هذه الخطة "الجهنمية" للحكومة بعد أيام قليلة من تأكيد رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري لمحافظ البنك المركزي رياض سلامة إن ودائع الناس في البنوك "من المقدسات" ويجب عدم المساس بها.
لبنان هنا يكرر تجربة قبرص حينما سطت حكومتها قبل 7 سنوات على نحو نصف أموال المودعين. فعندما واجهت الدولة الأوروبية أزمة مالية عنيفة في عام 2013، أدت إلى تعثرها في سداد ديونها الخارجية، قرر البنك المركزي القبرصي اقتطاع نسبة 47.5% من أموال المودعين في بنك قبرص، الذين تتجاوز أرصدتهم 100 ألف يورو، في إطار تنفيذ خطة أطلق عليها ساعتها "خطة الإنقاذ الأوروبية"، وكان الاقتطاع إجراء غير مسبوق في منطقة اليورو.
لم يقف الأمر لدى حكومة قبرص وقتها عند حدود مصادرة نصف الودائع، فمقابل الحصول على قرض بقيمة 10 مليارات دولار عرضها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وافقت حكومة قبرص على تصفية "بنك لايكي"، البنك الثاني في البلاد، وإعادة هيكلة بنك قبرص، البنك الأول.
ما تفعله حكومة دياب في لبنان هو نوع من الانتحار المصرفي والاقتصادي والمالي قد يقضي على ما بقي من صدقية للقطاع المصرفي اللبناني ويهزّ الثقة به، وقد يؤدي إلى سرعة وتيرة تهريب الأموال إلى الخارج في حال فكّ القيود المفروضة على عمليات السحب.
بل ما تفعله الحكومة من مصادرة جزء من أموال أصحاب المدخرات هو نوع من المكافأة للنخبة الحاكمة الفاسدة التي نهبت أموال البلاد وهربتها إلى الخارج، وعندما تحين لحظة العلاج، وبدلاً من استرداد الحكومة الأموال المنهوبة والمهربة من قبل النخب الحاكمة، تضع السلطة الحاكمة يدها في جيب المودعين وتسطو على جزء من أموالهم.
ما يحدث في لبنان أمر في غاية الخطورة، فهو يكسر القاعدة المتعارف عليها وهي أن البنوك المركزية ضامنة لأموال المودعين، أصحاب المدخرات قد يتفهمون وضع قيود على أموالهم، أو حدود لعمليات السحب النقدي في حال حدوث أزمات مالية كما حدث في اليونان والأرجنتين وغيرها، لكن أن تسطو الحكومة على جزء من أموالهم، فهذا يعد هز ثقة في القطاع المصرفي بالكامل.