تكاتفت العديد من العوامل السياسية والاقتصادية لتهبط بالليرة التركية إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى إطاحة محافظ المصرف المركزي، مراد أويصال، من منصبه، الخطوة التي يراها مراقبون أنها مقلقة للمستثمرين والأسواق، فيما يؤكد أخرون أنها جيدة وستكون لها انعكاسات إيجابية.
ومنذ بداية أكتوبر / تشرين الأول الماضي، فقدت الليرة حوالي 7% من قيمتها مقابل الدولار، إذ يدور سعر العملة التركية حاليا حول 8.5 ليرات مقابل الدولار، في حين هبطت ما يزيد عن 30% منذ بداية العام الجاري.
يعتبر مراقبون أن ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا، منتصف يوليو/ تموز 2016، كانت تاريخاً جديداً لليرة، وقت تراجع سعر صرفها إلى 2.94 ليرة، لتفقد نحو 4% من قيمتها، قبل أن تتحسن بأول يوم عمل بعد يومي عطلة عقب الانقلاب، بنحو 3%، إلا أن حاجز 3 ليرات للدولار لم يكن بعيداً، على رغم ما اعتبره مراقبون وقتذاك "حاجزاً نفسياً" إن تعدته الليرة فستستمر بالتراجع.
وأتت تفجيرات عدة طاولت الولايات التركية بعد الانقلاب، ربما أهمها وأخطرها في إسطنبول، التي شهدت تفجيري السلطان أحمد وبشكتاش ليتراجع سعر الصرف تباعاً ليصل إلى 3.521 ليرات، وتحافظ الليرة على هذا المستوى، مع تذبذبات طفيفة، حتى مطلع مايو/ أيار 2017 وقت سجلت العملة المحلية أعلى سعر أمام الدولار في 5 شهور عند 3.531 ليرات، بعدما فقدت 3% من قيمتها لتغلق عام 2017 على نحو 3.8146 ليرات للدولار على خلفية أزمات سياسية مع أميركا.
وفي الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، أعلنت سفارة الولايات المتحدة في أنقرة تعليق جميع خدمات التأشيرات في مقرها والقنصليات الأميركية في تركيا "باستثناء المهاجرين"، وعلى الفور ردت السفارة التركية في واشنطن بإجراء مماثل يتمثل في تعليق إجراءات منح التأشيرات للمواطنين الأميركيين في مقرها وجميع القنصليات التركية بالولايات المتحدة.
واندلع هذا التوتر بين البلدين، بعد صدور حكم قضائي تركي بحبس "متين طوبوز" الموظف في القنصلية الأميركية العامة في إسطنبول، بتهم مختلفة بينها "التجسس".
ودخلت الليرة عام 2018 بتحسن نسبته 1.16% بعد انتهاء أزمة التأشيرات بين أنقرة وواشنطن، ليبلغ سعر الدولار 3.7711 ليرات، لتحافظ الليرة على استقرارها نهاية 2018 بنحو 5.4 ليرات للدولار، لتبدأ عام 2019 مشوار التراجع فوق 5 ليرات حتى شهر إبريل/ نيسان وقت هوت إلى ما دون 7 ليرات، لتتحسن وتنهي عام 2019 عند 5.8 ليرات مقابل العملة الأميركية، ليكون عام 2020 الأكثر تراجعاً، بعد أن خسرت الليرة أكثر من 30% من قيمتها هذا العام وتتهاوى إلى نحو 8.5 ليرات للدولار.
واصلت العملة التركية تدحرجها وسط خلاف واضح بين الرئيس رجب طيب أردوغان، وقيادات المصرف المركزي، إذ يرى أردوغان ضرورة خفض سعر الفائدة من أجل إنعاش الاقتصاد، في حين يلجأ قيادات المصرف المركزي إلى رفع سعر الفائدة للحد من نزيف الليرة.
وكان سعر الفائدة المصرفية بلغ في يوليو/تموز 2019 نحو 24 بالمائة، ولم يعتمد محافظ المركزي وقتذاك، مراد تشتين قايا، أي أدوات مالية أو نقدية، لتحسين سعر الصرف الذي تهاوى لنحو 5.7 ليرات مقابل الدولار، سوى رفع سعر الفائدة.
فما كان من الرئيس التركي، المعروف أنه ضد رفع أسعار الفائدة المصرفية ومع تحفيز الاقتصاد والاعتماد على الإنتاجي منه، إلا أن تدخل وقبل انقضاء الأربع سنوات، فترة تشتين قايا فقام بعزله ليصدر في 6 يوليو/ تموز من العام الماضي، مرسوماً رئاسياً يعين خلاله، نائب المحافظ المقال، مراد أويصال صاحب التجربة الكبيرة بالمصارف منذ عام 1998.
وفعلاً، تناغم المحافظ أويصال مع توجهات الساسة الأتراك، وبدأ بالتخفيض التدريجي لسعر الفائدة، لتتراجع من 24 بالمائة إلى 8.25 بالمائة الشهر الماضي، وقت بدأت الليرة تنفلت من قبضة المركزي وتتراجع على نحو متسارع رغم التدخل المباشر، وضخ كتل دولارية أثرت على حجم الاحتياطي لدى المصرف المركزي، فعاود لاستخدام سعر الفائدة، كأداة نقدية فاعلة ومباشرة، لوقف تدهور سعر العملة التي تعدت ثماني ليرات مقابل الدولار، ليرفع سعر الفائدة ولأول مرة منذ توليه منصب المحافظ، بنحو 200 نقطة أساس لتصبح الفائدة 10.25 بالمائة.
وحسب مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" كان المحافظ المقال، يخطط لرفع سعر الفائدة خلال اجتماع المصرف المركزي في التاسع عشر من الشهر الجاري، لكن الرئيس التركي سبقه، إذ أصدر صبيحة أول من أمس، مرسوماً رئاسياً بعزل أويصال وتعيين وزير المالية السابق ناجي آغبال بدلا منه.
ولم يكتف الرئيس أردوغان بإقالة المحافظ، بل أردف المرسوم بقرارات تعيين إبراهيم شنل رئيسًا لإدارة الاستراتيجية والموازنة بالرئاسة خلفًا لناجي آغبال، كما عيّن وزير الاقتصاد السابق، نهاد زيبكجي، عضواً بلجنة السياسات الاقتصادية برئاسة الجمهورية، وهو ما يراه مراقبون، تحصين السياسة النقدية ضد ما وصفه أردوغان قبل أيام بـ"مثلث الشيطان" أي الفائدة وأسعار الصرف والتضخم، وكرر أردوغان تأكيده بأن حل التضخم وتحسين سعر الصرف، لا يأتي عبر رفع سعر الفائدة، بل من خلال إخراج الأموال من خزائن المصارف وتوجيهها نحو الاقتصاد الحقيقي والاستثمار.
يرى مراقبون أن تدخل الساسة، وفي مقدمتهم رئيس الدولة بالسياسة النقدية وإقالة محافظ المصرف المركزي، سيزيد قلق الأسواق وتراجع سعر الصرف، كما يضيف هؤلاء، أن التدخل المباشر للرئاسة في السياسات المالية، يزيد من توجس الاستثمارات ورؤوس الأموال، قبل دخولها إلى تركيا.
وعلق وزير الاقتصاد التركي السابق، زعيم حزب الديمقراطية والتقدم (ديفا)، علي باباجان، على إقالة أردوغان لمحافظ البنك المركزي بعد مواصلة تراجع الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، قائلا: "لا يمكن الهروب من المسؤولية بإقالة محافظ المركزي، وإلقاء اللوم على البيروقراطية، هذه الأمة ليست ساذجة".
وأضاف باباجان خلال حديثه في مؤتمر الحزب بمدينة "ماردين" السبت: "لقد غيروا المحافظ السابق لأنه لم يكن يستمع لتعليماتهم، وجلبوا محافظًا جديدًا للبنك المركزي ليفعل ما يقولونه، ماذا حدث؟ سعر صرف العملة يزداد سوءًا، والبطالة آخذة في الارتفاع".
وفي المقابل، يرد المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو: "من حق رئيس الدولة دستورياً، تغيير محافظ المصرف المركزي، وليس في ذلك تدخل، بل القرار جاء للمحافظة على سياسة الدولة بالاعتماد على الاقتصاد الإنتاجي وليس الخدمي أو المصرفي فقط، وعدم الاستجابة للهزات والأسباب المتبدلة لتغيير نهج اقتصادي ترسمه تركيا ليوصلها لحلم المئوية عام 2023".
وحسب كاتب أوغلو، لـ"العربي الجديد،"، فإن نهج رئيس الدولة، معروف ويتمحور حول ضرورة خفض الفائدة على الليرة والاعتماد أكثر على الاستدانة بالعملة المحلية، وتحفيز الحصول على العملات الأجنبية عبر زيادة الصادرات والسياحة والنشاط العقاري والصادرات الغذائية، وكذلك استخدام نظام المقايضة في التجارة مع بعض الدول لتقليل الحاجة للعملات الصعبة التي تستنزف احتياطات البلاد من العملات الأجنبية. كما أن تخفيض سعر الفائدة، يساهم بتخفيض كلفة تسديد الديون الأجنبية وكلفة خدمتها الشهرية".
ويضيف كاتب أوغلو أن رفع سعر الفائدة المصرفية لن يحسن من سعر الليرة، لأن الأسباب سياسية واقتصادية، وأهمها لها علاقة بآثار عام كورونا التي طاولت الاقتصادات الكبرى أكثر من تركيا بكثير، معتبراً أن سعر الفائدة اليوم، 10.25% هو جيد بل عال نسبياً.
واعتبر المحلل التركي أن الربع الأخير من العام الجاري، سيشهد تحسناً بتوازن العملات الأجنبية بالسوق التركية، سواء عبر الصادرات التي ارتفعت الشهر الماضي بشكل كبير (17.3 مليار دولار) أو ما يمكن أن تجذبه تركيا من السياحة العلاجية.
ومن جانبه، يؤكد أستاذ النقد بجامعة ماردين التركية، مسلم طالاس لـ"العربي الجديد" أن سرعة تبديل المحافظ، من مؤشرات عدم استقلالية المصرف المركزي، كما أن الأدوات المتاحة، قليلة خلال فترة التوترات السياسية وآثار فترة كورونا، لذا قد يكون سعر الفائدة الأداة الوحيدة المتاحة لضبط السوق ومحاولة وقف تراجع سعر صرف الليرة.
ويضيف طالاس أن للأسواق قرون استشعار وقلما تستجيب لتصريحات المسؤولين، حتى من يروّج منهم بعد وصول جوزيف بايدن للبيت الأبيض، أو ما يتم تداوله من احتمال عقوبات وتخفيض التصنيف الائتماني، فالأسواق تتنبأ بناء على الأداء الاقتصادي ومدى انكشافه وحركة المبيع والشراء، أكثر مما تنشغل بتحليل التصريحات.
ويختم أستاذ النقد بجامعة ماردين التركية، أن تدخل رئيس الدولة مباشرة، خاصة بعد رفع المحافظ السابق أول مرة سعر الفائدة، سيكون له آثار سلبية على الليرة، وإن لفترة محددة، من بعدها، قد يحدث العكس كما رأينا خلال تخفيض سعر الفائدة وقت كانت تتحسن الليرة.
واعتبر أن الأسباب الاقتصادية، من تراجع الصادرات وعائدات السياحة وارتفاع الدين العام، إضافة للأسباب السياسية وتوترات المنطقة، هي التي أدت إلى تراجع سعر صرف العملة التركية.
لم تصب توقعات المحللين بتحسن السياحة والصادرات خلال العام الجاري، كما خابت آمال البنك المركزي التركي، الذي أعلن سابقاً ألا يزيد سعر الدولار نهاية العام، عن 6.99 ليرات تركية ونسبة التضخم عن حدود 9.54 بالمائة، إذ زاد الدولار إلى 8.5 ليرات ووصل التضخم إلى عتبة 12%، مشفوعين بزيادة نسب عجز الموازنة والميزان التجاري، ليكون عام 2020 وفق مراقبين، الأسوأ على تركيا اقتصاديا منذ سنوات.
ويشير مراقبون إلى أن الأسباب الحقيقية لتراجع سعر صرف الليرة، لا تتعلق بشكل أساس بسعر الفائدة، كما يرون أن رفع سعر الفائدة لن ينعش الليرة بواقع التوترات السياسية، الأوروبية التركية بسبب التنقيب عن النفط والغاز بالبحر المتوسط والتوترات بأذربيجان وسورية، فضلاً عن أسباب اقتصادية ارتبطت هذا العام بإغلاقات كورونا، سواء تراجع الصادرات التي تعدت العام الماضي عتبة 180 مليار دولار إلى نحو 109.1 مليارات دولار حتى نهاية الربع الثالث هذا العام، أو السياحة التي يعول عليها الأتراك، كرافعة للاقتصاد ومولدة للقطع الأجنبي، إذ لم يصل عدد السياح الأجانب لتركيا، حتى نهاية الربع الثالث إلى 10 ملايين سائح، في حين كانت الخطط والآمال على 57 مليون سائح هذا العام، بعد جذب 52 مليون سائح العام الماضي، حسب بيانات رسمية.
ويلفت المراقبون إلى أن تهاوي سعر صرف الليرة ساهم فيه تراجع احتياطي المصرف المركزي إلى ما دون 84 مليار دولار وزيادة الدين العام عن 425 مليار دولار، المستحق منه العام الجاري والمقبل يقدّر بنحو 170 مليار دولار.
كل الأسباب الاقتصادية التي ذكرها مسؤولون ومحللون، ليست الوحيدة وراء تراجع سعر الصرف، بل هناك أسباب سياسية واستهداف لتركيا، كما يرى الخبير الاقتصادي التركي، أوزجان أويصال، الذي يقول لـ"العربي الجديد": يوجد أيضاً استهداف لاقتصاد تركيا، ومنها ما يحدث من تركيز وكالات التصنيف الائتماني على الاقتصاد التركي، وتخفيض التصنيف مراراً كما حدث الشهر الماضي وقت خفضت "موديز" التصنيف الائتماني لتركيا من "بي 1" إلى "بي 2" مع نظرة مستقبلية سلبية، والتحجج دائماً بحجم الدين الخارجي، رغم أنه بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، أقل من ديون الدول الأوروبية والولايات المتحدة وحتى الصين، وذلك يؤثر على جذب الاستثمارات والرساميل ويؤثر أيضاً على معروض العملات الأجنبية بالسوق.
ونقلت رويترز عن "محلل كبير" في وكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية، يوم الجمعة الماضي، أن تركيا لم تشدد السياسة بما يكفي لدعم الليرة، التي نزلت إلى مستوى قياسي متدن جديد الجمعة، وأن احتياطيات النقد الأجنبي والتمويل الخارجي للبلاد يظلان نقطتي ضعف.
المحلل الرئيسي المعني بتركيا لدى الوكالة، دوغلاس وينسلو، قال إن وقوع المزيد من الضغوط من العملة وتضخم في خانة العشرات وتآكل احتياطيات النقد الأجنبي "ستزيد بشكل كبير فرص" زيادة أسعار الفائدة الرسمية بحلول نهاية العام.
وحسب مراقبين، قد تعاني العلاقات الثنائية لتركيا مع الولايات المتحدة مع جو بايدن الذي فاز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، مما يُضاف إلى الضغوط على الليرة التي هبطت ما يزيد عن 30% منذ بداية العام الجاري ونحو 10% في الأسبوعين الماضيين فقط.
وجاءت الهزات الرئيسية لعملة تركيا، حسب أويصال، لأسباب خارجية وغير اقتصادية، سواء من خلال الانقلاب الفاشل، بداية تراجع سعر الليرة الفعلي أو خلال التهديد الأميركي على خلفية القس برونسون عام 2018 وقت التهاوي الأكبر بسعر الصرف.