ليس الاقتصاد العامل الوحيد الدافع للاحتجاج، لكنه أبرز منطلقات حراك شهدته مناطق ريفية مصرية مؤخرا، تتشابه في سماتها الاجتماعية، ويجمعها بجانب آثار قانون التصالح وحملات الإزالة مشكلات تدني مستوى الخدمات وصعوبة الأوضاع الاقتصادية.
وانطلاقا من ذلك يمكن قراءة خرائط الاحتجاج بشكل عام، مع التركيز على نموذج حالة الجيزة، وهي أكبر المحافظات بعد القاهرة من حيث عدد وكثافة السكان (9 ملايين نسمة)، إضافة إلى أنها إحدى المحافظات التي تتضح فيها مظاهر التفاوت الاجتماعي والتنموي، فضلا عن قربها من مركز الفعل السياسي.
خرائط الحراك
تسارعت منذ يوليو 2020 وتيرة تطبيق قانون التصالح على مخالفات البناء، وعلى أثر ذلك اندلعت تحركات احتجاجية، تنوعت ما بين شكاوى جماعية ووقفات ومظاهرات، وخلال أغسطس بدأت الاحتجاجات تتصاعد، وكانت ذروتها في سبتمبر/أيلول، وتضمنت تحركات في 14 محافظة، منها ريف محافظتي القليوبية والجيزة، والأخيرة شهدت 83 احتجاجا في الثلث الأخير من سبتمبر/أيلول حسب تقرير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني.
بينما كانت مجمل الاحتجاجات 164، ويلاحظ تركز الاحتجاجات في المناطق الجنوبية والطرفية من المحافظات، خاصة محافظتي الجيزة والمنيا، مما يشير إلى التهميش الذي تعاني منه الأطراف، والفجوة بينها وبين المراكز الحضرية، ليس بين محافظات الصعيد والعاصمة فحسب، ولكن أيضا بين عواصم المحافظات وأطرافها، والتي غالبا ما تفتقد إلى العدالة في توزيع الخدمات، وكأن التهميش وغياب التنمية في الأطراف واقع عصي على التغيير ومتواز مع حقائق الجغرافية.
لم يكن غريبا أن يشهد أغلب ريف الجيزة (الحوامدية، أطفيح، أبو النمرس، كرداسة، الصف، البدرشين وغيرها) أعلى معدلات احتجاج خلال سبتمبر، فقد بلغ عدد المتقدمين بطلبات تصالح نهاية أغسطس 14 ألفا، جمع منهم 294 مليون جنيه كجدية تصالح، وفى 7 سبتمبر وصلت الطلبات إلى 20 ألف بحصيلة 350 مليون جنيه، وحسب تصريحات رسمية بلغ عدد قرارات الإزالة الصادرة في الفترة من (2018-2020) نحو 21 ألف قرار، نُفذ منها ما يزيد عن 13 ألفا.
وسبق أن أعلن محافظة الجيزة اللواء أحمد راشد أنه مكلف بإعادة ضبط الشارع، واستعادة هيبة الدولة، وربط الهدفين في مرات عديدة بإزالة مخالفات البناء ومحاسبة المخالفين، وفعليا كثفت عمليات الإزالة.
وترتبط خرائط الاحتجاج بالجيزة والمحافظات في أغلبها بحجم المتضررين من قانون التصالح، فالقليوبية التي تصدرت المشهد الاحتجاجي مع الجيزة والمنيا، وصلت حصيلة أقساط وجدية التصالح فيها إلى مليار جنيه حتى 21 سبتمبر، بينما وصلت طلبات التصالح بالجمهورية إلى 2.1 مليون بحصيلة 14 مليار جنيه حتى 28 أكتوبر/ تشرين الأول.
حالة الاحتجاجات بريف الجيزة
تعد الاحتجاجات في محافظة الجيزة إطارا مناسبا لتحليل وفهم حراك الريف، انطلاقا من عدة أسباب أولها: تعاظم مشكلات المعرضين لأعباء حملات الإزالة، سواء المرتبطة بمخالفات البناء على الأراضي الزراعية أو اشتراطات البناء الأخرى، إضافة لتعرض عدة مناطق فيها لحملة واسعة طاولت أنشطة تجارية وعقارات سكنية، حسب تصريحات رسمية "تم رصد 52 ألف حالة بناء على أراض زراعية من 2011 على مساحة تقدر بـ 1883 فدانا، أزيل منها 28 ألفا حتى نهاية أغسطس 2020"، ويتضح في هذا السياق، كمية الإزالات، والتي مثلت ضغطا على عدد كبير لتقديم طلبات التصالح، غير التهديد بالتحويل لمحاكمات عسكرية، وخلال سبتمبر استمرت حملة الإزالات، وكثفت لجان التصالح الإدارية بمراكز جنوب الجيزة عملها. ، وخصصت بعض مدارس القرى لاستقبال الطلبات بجانب المراكز التكنولوجية.
كل ذلك شكل ضغطا على من يستهدفهم قانون التصالح، سواء في ما يتعلق بقيمة رسوم التصالح (تم تخفيضها أكثر من مرة) أو توقيت تحصيلها، إضافة لذلك صدر قرار وقف البناء، والذي تزامن مع تصريحات حول إمكانية أن توفر الدولة مسكنا لكل مواطن، فى إشارة للمشروعات الضخمة لوزارة الإسكان، والتي يقع بعضها بنطاق محافظة الجيزة (6 أكتوبر، أكتوبر الجديدة، الشيخ زايد وغيرها)، لكنها لم تشهد طلبا يتناسب مع حجم المعروض منها من وحدات إسكانية.
ثانيا: تنوع القطاعات الاجتماعية المتضررة من حملات الإزالة، وقانون التصالح، بالإضافة إلى قرار وقف البناء الذي أضر المرتبطين بإنتاج مستلزماته، ومنهم أصحاب والعاملون في مصانع الطوب بالجيزة (نحو 650 مصنعا تنتج 60%)، وأيضا العمالة في قطاع البناء والتشييد، غير المتضررين من إزالة منشآت تجارية، وتبقى الكتلة الأكثر تضررا سكان وأصحاب العقارات المهددة بالإزالة، والمطالبين بسرعة تسديد 25% من رسوم التصالح كإثبات جدية، والذين لم يتمكن كثير منهم من تسديدها رغم تمديد فترة التصالح من أغسطس إلى 15 سبتمبر، ومنها إلى 31 أكتوبر، ومؤخرا إلى نوفمبر/ تشرين الثاني.
ويضاف إلى أزمة هؤلاء غضب من هدمت عقاراتهم، وهنا توافرت حاضنة اجتماعية واسعة للحراك لم تتوفر بالريف منذ 1997 حين طبقت تعديلات قانون الإصلاح الزراعي، والذي فقد بموجبه مئات الآلاف من الفلاحين الأراضي التي يزرعونها.
ثالثا: تشكل الخصائص السكانية لمحافظة الجيزة من فقر وبطالة وتردي الخدمات أزمة لأغلب سكانها، تعاني بدرجات متفاوتة مشكلات مياه الشرب، وبعض مناطقها دون صرف صحي، غير تردي أوضاع الخدمات الصحية، والطرق، والبنية التعليمية، وسبق أن أشارت تصريحات رسمية إلى أن التمدد العمراني سيزيد من أزمة قطاعات الخدمات (المياه والطرق والكهرباء) ويزيد التكلفة المالية لبنودها، كما يؤثر على جودة الخدمة المقدمة لباقي العقارات، وهو الأمر الذي تم تكراره في سياق قانون التصالح لوقف التمدد العمراني.
رابعا: حدوث تحولات في سوق العمل بمراكز الجيزة الريفية، والتي كان يعمل أغلب سكانها في الزراعة، انخفض مردود النشاط الفلاحي، وتعثرت أوجه الإنتاج بقطاع الزراعة، لأسباب منها ارتفاع مستلزمات الزراعة والإنتاج الحيواني، وبالتالي تراجع عوائد القطاع الزراعي، وبذلك تأثرت أوضاع صغار المزارعين من أصحاب الملكية المحدودة أو العاملين بأجر، غير تقلص أسواق عمل خارجية كانت تستوعب جزء من قوة العمل.
خامسا: التهميش والتفاوت الاجتماعي والتنموي، يلمح من خرائط تقسيم الجيزة فوارق طبقية بين شمالها الحضري، وجنوبها الريفي، خاصة إذ جرت المقارنة بين شقاء سكان العياط والحوامدية وأبو النمرس وغيرهم، وافتقادهم الخدمات، وبين سكان أحياء الزمالك والمهندسين والدقي، أي أن الجيزة تمثيل للصراع الطبقي والاجتماعي، ونموذج للتفاوت في مستوى الخدمات، كما أن جزءا من سكان جنوب الجيزة، يرتحلون بشكل يومي للعمل في المناطق الحضرية بالقاهرة والجيزة، وهنا يمكن تلمس جوانب المعاناة، والتكلفة النفسية والاقتصادية لرحلة الهجرة اليومية، فضلا عن ارتفاع حدة المعاناة نتاج ارتفاع أسعار خدمات النقل والكهرباء، مما ضغط على بنود أساسية ولا سيما الطعام.