فتيل التباطؤ يشتعل في أوروبا من جديد

15 سبتمبر 2023
تظاهرة ضد الفقر في برلين (Getty)
+ الخط -

بعد أن سجّلت اقتصادات منطقة اليورو نمواً طفيفاً في الربع الثاني من العام الحالي 2023، تعود المخاوف من جديد حول احتمالية دخول المنطقة في ركود اقتصادي، خاصة بعد تسجيل مؤشر مديري المشتريات المركب في أغسطس /آب الماضي أكبر انكماش له منذ نوفمبر 2020، عندما غرق العالم في أزمة اقتصادية، بسبب وباء كورونا.

وقد تراجع المؤشر الذي تترقبه بنوك الاستثمار ومراكز البحوث والخبراء إلى 47 نقطة في أغسطس مقارنة بـ 48.6 نقطة في يوليو، الأمر الذي وصف بكونه الوتيرة الأسرع للانكماش خلال ثلاث سنوات، واستناداً للأرقام الحالية للمؤشر توقع كبير الخبراء الاقتصاديين لدى هامبورغ كوميرشال بنك، سايروس دولا روبيا، أن تشهد منطقة اليورو انكماشاً بنسبة 0.2% في الفصل الثالث.

وبذلك فإن كل التوقعات تشير إلى استمرار التراجع في النمو الاقتصادي داخل منطقة اليورو على الأقل في الربع الجاري، وربما بات تحسنه قليلاً في الربع الأخير محل شك، لا سيما بعد المؤشرات السابقة، وهو الأمر الذي يعززه تراجع العديد من القطاعات المهمة التي تشكل روافع أساسية لمعدلات النمو في دول اليورو، مثل قطاعي التصنيع والخدمات، بالإضافة إلى تراجع أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، وهما فرنسا وألمانيا.

ألمانيا رجل أوروبا المريض

منذ أيام قليلة توقع البنك المركزي الألماني أن يواصل الاقتصاد الألماني أداءه الباهت والركود خلال الربع الثالث من العام الحالي، فيما توقع صندوق النقد الدولي أن تكون ألمانيا الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي سيتراجع في أوروبا في 2023.

ورغم انكماش الاقتصاد الفرنسي كذلك فإن المؤشرات تشير بوضوح إلى أنه على مستوى قطاع التصنيع نلحظ أن الشركات الألمانية تعمل على خفض إنتاجها بوتيرة أسرع بكثير من نظيراتها الفرنسية، وأن الناتج الاقتصادي الألماني سوف يستمر في الهبوط خلال الربع الجاري حتى سبتمبر/ أيلول، ثم ينمو خلال الربع الأخير من السنة، ولكن بنسبة ضعيفة.

ودفعت الأحوال الاقتصادية المتردية الكثير من الشركات الألمانية إلى التعثر المالي، وإعلان الإفلاس، والخروج من الأسواق، وارتفعت نسبة الشركات التي تقدمت بطلب للبدء بإجراءات إعلان الإفلاس بنحو 23.8% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.

ومنذ أيام أعلن مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني عن تراجع صادرات الشركات الألمانية خلال شهر يوليو/تموز الماضي، وأشار إلى أنه من غير المرجح أن يحدث انعكاس في هذا الاتجاه بالوقت الحالي، مع تدهور الحالة المزاجية في صناعة التصدير الألمانية، وأن معاناة المصدرين الألمان تتواصل مع ضعف الطلب العالمي، وأن العديد من الشركات تشكو المزيد من تدهور قدرتها التنافسية العالمية.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

وأبلغت محاكم الولايات الألمانية، خلال شهر مايو/ أيار الماضي، عن 1478 حالة إفلاس شركات، وهي نسبة مرتفعة بمقدار 19% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. وقدّرت المحاكم المحلية ديون تلك الشركات بنحو 4 مليارات يورو، وهو ضعف ما كان عليه في مايو عام 2022، إذ بلغ حينها نحو 2.2 مليار يورو.

ولا شك أن تباطؤ الاقتصادين الألماني والفرنسي يشكل قوة دافعة نحو هوة الركود الاقتصادي لإجمالي منطقة اليورو التي لا تزال تعاني جراء سياسات رفع سعر الفائدة، والحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها من المشكلات الاقتصادية الداخلية الأخرى.

أسباب التباطؤ الاقتصادي

أعلن مكتب الإحصاءات الأوروبية "يوروستات" أن الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو نما 0.6% في الربع الثاني من 2023، على أساس سنوي، وأن اقتصاد منطقة اليورو نما في الربع الثاني بنسبة 0.3% على أساس فصلي، قياساً على قراءة صفرية في الربع الأول.

وكان اقتصاد منطقة اليورو قد سقط رسمياً في ركود اقتصادي هو الأول لمدة ستة أشهر متتالية منذ وباء كورونا، بسبب تراجع معدل النمو، ويرجع هذا التباطؤ الملحوظ لاقتصادات المنطقة إلى الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة خلال تلك الفترة، ثم السياسات النقدية المتشددة التي انتهجها البنك الأوروبي لمواجهة التضخم، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية الداخلية لبعض الدول، وفي مقدمتها ألمانيا.

ولا تزال الصناعة كثيفة الاستخدام للطاقة في أوروبا تواجه وقتاً صعباً للتكيف مع أسعار الطاقة وأسعار الكربون المرتفعة، ويرجح ذلك تراجع نمو قطاع التصنيع في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سينعكس ولا شك على تزايد معدلات البطالة، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية على انخفاض مستويات المعيشة وجودة الحياة بصفة عامة.

كما أن رفع سعر الفائدة على اليورو رفع تكلفة الأموال والقروض، وخفض من جدوى الاستثمار المباشر، وكدّس الأموال في البنوك، وهو ما دفع لمفاقمة سرعة التوجه نحو الانكماش، خاصة مع التضافر مع الكثير من العوامل السابق الإشارة إليها.

هل تفادت أوروبا الركود العنيف؟

قال مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، باولو جنتيلوني، إن أوروبا تواجه تأثير "أزمة مزدوجة"، لكن المنطقة يمكنها تجنب الركود، وذلك في إشارة إلى التأثير الجيوسياسي الناجم عن الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، والضربة الاقتصادية اللاحقة للقارة الأوروبية، التي أسفرت عن حدوث قفزة في التضخم، وزيادة كلفة المعيشة وأسعار السكن والسلع والخدمات، وهو ما أدى إلى زيادة الأعباء المعيشية.

ولكن المشكلة، طبقاً للكثير من المراكز البحثية، لا تكمن في تباطؤ العام الحالي الذي يجب ألا تحتفي به أوروبا كثيراً، وإنما في الركود المؤكد للعام القادم، ويشير بنك "أتش أس بي سي" إلى أن الولايات المتحدة ستدخل في حالة تباطؤ اقتصادي خلال الربع الرابع من عام ‏‏2023، يليه "عام من الانكماش والركود في أوروبا خلال 2024، ولا شك أن الركود الأميركي سيعمق أزمة الركود الأوروبي.

وتختلف أسباب الركود المتوقع في الولايات المتحدة الأميركية عن نظيرتها الأوروبية، ويأتي في مقدمتها تراجع البنوك عن الإقراض، بسبب تدفقات الودائع التي أدت إلى انهيار العديد من البنوك في وقت مبكر من هذا العام، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي يشعر بها المستهلكون والشركات، وكذلك ظهور "منحنى العائد المقلوب"، حيث قفز العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عامين فوق عائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، وهذه إشارة تعبر عن رغبة المستثمرين في نقل أموالهم إلى أصول أكثر أماناً في الأجل الطويل، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها وانخفاض عوائدهم.

كما أن الاقتصاد الأوروبي يواجه أزمة ديموغرافية كبرى تتعاضد مع الأزمات الاقتصادية التي تلاحقه، وبحسب تقارير رسمية، شهدت ثماني دول أوروبية، يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، انخفاضاً في عدد سكانها في العقد الماضي، ووفقاً للدراسات فإن منطقة اليورو ستدخل المنعطف الخطر، خلال العقد المقبل، وهي حقبة التغيير الديموغرافي الكبير وتداعياته الاقتصادية، وعلى الرغم من أنها عملية تبدو بطيئة في الوقت الراهن، لكنها ربما تتسارع في العقود المقبلة.

ربما تستطيع الاقتصادات الأوروبية الإفلات من التباطؤ والركود خلال بضعة أرباع سنوية، ولكنه بات من المؤكد أن ثمة تحديات كبيرة تواجهها على المدى المتوسط، فكما شاهدنا، ولأول مرة منذ عقود، أنين المواطنين الأوروبيين، جراء ارتفاع الأسعار وانخفاض مستويات المعيشة، فمن المرجح أن نشهد المزيد من التراجعات الاقتصادية خلال السنوات القادمة، ولن يتوقف الأمر عند حدود التباطؤ فقط، بل سيمتد ليشمل معظم مؤشرات الاقتصاد الكلي.

المساهمون