بعد التعويم الثالث للجنيه المصري، يسود أوساط المواطنين حال من الغليان والقلق المعيشي، إذ لم يكن أمس الخميس يوماً عادياً إذ تزامن رفع سعر الفائدة مع هبوط قياسي للجنيه والإعلان عن الحصول على قروض بقيمة 9 مليارات دولار بينها 3 مليارات من صندوق النقد الدولي.
أمس، فقد الجنيه أكثر من 15.7% من قيمته في أعقاب قرار البنك المركزي رفع سعر الفائدة بنسبة 2%، واعتماد سعر صرف مرن لقيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، ما أثار حالة ترقب شديدة في الأسواق من زيادة التضخم وموجة من الخوف والغضب بين المواطنين، تمثلت في تعليقات صاخبة على مواقع التواصل الاجتماعي تحذر من عاصفة الغلاء المقبلة.
وقفز سعر صرف الدولار في البنوك المصرية الخاصة إلى 22.75 جنيهاً للبيع، مقارنة بـ19.70 جنيهاً قبل قرار البنك المركزي، فيما سجل سعر الدولار 22.45 جنيهاً في البنك الأهلي المصري، أكبر البنوك الحكومية في البلاد.
جاء هذا التطور بموازاة إعلان رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، حصول بلاده على تمويلات دولية إجماليّها 9 مليارات دولار، بعد توصل الحكومة إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء، للحصول على قرض جديد من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار، كذلك يُتيح برنامج الاتفاق، الممتد لـ4 سنوات، إمكانية حصول مصر على تمويل إضافي قدره مليار دولار عبر صندوق المرونة والاستدامة الذي أُنشئ حديثاً من قِبل صندوق النقد الدولي، وعلى حزمة تمويلية خارجية إضافية تبلغ نحو 5 مليارات دولار من عدّة مؤسسات تمويل دولية وإقليمية، بشروط ميسرة.
وأدى الانخفاض المفاجئ في قيمة الجنيه إلى ارتباك شديد بحركة التعاملات في البنوك، والبورصة، والأسواق التجارية، بعد انخفاضه بنحو 25% منذ مارس/ آذار الماضي، وتراجع تاريخي بنسبة 60% عام 2016. وجاء إعلان مصر توصلها إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بعد ساعات قليلة من رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة واعتماد سعر صرف مرن للجنيه مقابل العملات الأجنبية، استناداً إلى آلية العرض والطلب في السوق.
وفي التفاصيل، رفع البنك المركزي سعر الفائدة بمعدل 2%، على الإيداع والاقراض، لليلة واحدة، والعمليات الرئيسية، ليصل إلى 13.5% و14.25% و13.75%، على الترتيب. ورفع البنك سعر الائتمان والخصم، بواقع 2%، ليصل إلى 13.75%.
وفي سوق الصرف قرر البنك المركزي تعويم الجنيه المصري للمرة الثالثة، مع عدم تدخله في تحديد السعر، "ليعكس سعر الصرف قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية الأخرى بواسطة قوى العرض والطلب"، بحسب تعبير البنك في بيان مفاجئ أصدره صباح أمس عقب اجتماع استثنائي للجنة السياسات النقدية، قائلاً إن نظام سعر الصرف سيكون مرناً مع إعطاء الأولية للهدف الأساسي للبنك، الذي يستهدف تحقيق استقرار الأسعار.
كذلك أعلن البنك المركزي المصري الخميس، قواعد جديدة تسمح للبنوك بالقيام بعمليات الصرف الآجلة للشركات، بشرط أن يكون الغرض منها تغطية مراكز العملاء الناتجة من اعتمادات مستندية أو تسهيلات موردين.
وألغى أيضاً كتاباً يحظر القيام بأي عمليات صرف آجلة غير قابلة للتسليم للعملاء من البنوك أو المؤسسات أو الأفراد، مع السماح للبنوك المحلية بالقيام بها لغير أغراض المضاربة.
وتأتي البيانات الجديدة للعملة المحلية في تأكيد جديد للمسار النزولي الذي يسلكه الجنيه المصري في ضوء جموح التضخم الذي يفاقم معاناة المصريين، والذي تشير توقعات عديدة إلى هبوط قيمته، مع أن الترجيحات تتباين، ويبلغ أعلاها، حتى الآن، 24.6 جنيهاً من شبكة "بلومبيرغ"، وأدناها 20.75 جنيهاً من "ستاندرد تشارترد".
وجاء قرار البنك المركزي تعويم الجنيه ورفع سعر الفائدة في خطوة استباقية لزيارة وفد صندوق النقد الذي قرر منح مصر 3 مليارات دولار، فقط من حصة تمويل طلبتها الحكومة بلغت 15 مليار دولار في إبريل/ نيسان الماضي، مع شحّ خطير في العملة الصعبة.
وقال مدبولي، في مؤتمر صحافي حضره محافظ البنك المركزي حسن عبد الله، ومسؤولون في بعثة صندوق النقد في مصر، إن "الاتفاق مع الصندوق تضمّن برنامجاً للإصلاحات الاقتصادية الشاملة، يهدف إلى حماية الاقتصاد الكلي، واستدامة الدين العام، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، ومضاعفة الإصلاحات الهيكلية لدعم النمو، فضلاً عن توفير فرص العمل من خلال القطاع الخاص".
وادعى مدبولي أن "الاقتصاد المصري قادر على تحقيق الاستقرار، والصمود خلال الفترة المقبلة، في ظل الأزمة العالمية غير المسبوقة حالياً"، مضيفاً أن "الهدف من الاتفاق مع الصندوق حماية استقرار الاقتصاد، ومواجهة الصدمات الخارجية بفعل تداعيات أزمة الحرب الروسية - الأوكرانية".
وانعكس قرار خفض الجنيه سريعا على سوق المال، حيث صعد المؤشر الرئيسي للبورصة EGX30، مع اللحظات الأولى للجلسة الصباحية، بمعدل 370 نقطة، بمعدل 3.65 في المائة، متأثراً بارتفاع قيمة الشركات المقومة بالدولار.
وقال المحلل المالي إيهاب مهدي لـ"العربي الجديد" إن أسهم شركات أبو قير للأسمدة والبنك التجاري، قادت عملية الصعود، مع الشركات الدولية الأخرى، المقومة بالدولار، الذي أعاد تقييم أصولها وفقاً لسعر الدولار الذي ارتفع مقابل الجنيه.
وتوقع مهدي أن ارتفاع قيمة الدولار سيوجه المستثمرين إلى تنشيط الأداء في البورصة، رغم رفع معدلات الفائدة على الادخار بمعدل 2 في المائة، متأثرة بحالة عدم اليقين التي تنتاب الأسواق المحلية والدولية، وتوقع تذبذب حالة الجنيه لفترة زمنية غير محددة المدة.
وكان البنك المركزي قد أوضح في بيانه أن قرار لجنة السياسات النقدية، يرجع إلى وجود تداعيات اقتصادية وخيمة، لما يواجهه الاقتصاد العالمي من صدمات وتحديات لم يشهد مثلها منذ سنوات، متأثراً بسياسات الإغلاق مع انتشار وباء كورونا، واستمرار الصراع الروسي الأوكراني، بما أدى إلى الضغط على الجنيه المصري، زادت حدته مع تخارج رؤوس أموال المستثمرين الأجانب، وارتفاع أسعار السلع.
وتابع البيان، مضيفاً أن ترك سعر الصرف مرناً وفقاً للعرض والطلب، سيمكن البنك المركزي من العمل على تكوين والحفاظ على مستويات كافية من الاحتياطات الدولية.
وتعهد البنك المركزي في بيانه، بإلغاء تدريجي للتعليمات الصادرة في 13 فبراير/ شباط 2022، باستخدام الاعتمادات المستندية في عمليات تمويل الاستيراد حتى تمام الإلغاء الكامل لها في ديسمبر/ كانون الأول 2022.
واعتبر البنك هذا الإجراء يمثل حافزاً لدعم النشاط الاقتصادي على المدى المتوسط، مشيراً إلى أنه سيعمل على بناء وتطوير سوق المشتقات المالية بهدف تعميق سوق الصرف الأجنبي، ورفع مستويات السيولة بالعملة الأجنبية.
وتوقع البنك المركزي أن تؤدي الزيادة في الأسعار العالمية والمحلية إلى ارتفاع معدل التضخم العام، عن المستهدف من قبل البنك، البالغ 7 في المائة بزيادة أو نقصان 2 في المائة، في المتوسط خلال الربع الأخير من العام الحالي 2022.
وكان البنك قد رصد ارتفاع معدل التضخم في سبتمبر الماضي، بنحو 15 في المائة. وأشارت لجنة السياسات النقدية إلى أن الهدف من رفع أسعار العائد، احتواء الضغوط التضخمية الناجمة عن جانب الطلب، وقد ارتفع معدل نمو السيولة المحلية، والتوقعات التضخمية والآثار الثانية لصدمات العرض.
وبينما أشارت لجنة السياسات النقدية في بيانها إلى أنها تعمل على خفض معدلات التضخم، ليصل إلى نسب مستقرة على المدى المتوسط بما يدعم الدخل الحقيقي للمواطن ويحافظ على مكاسب التنافسية للاقتصاد، يؤكد خبراء أن قرارات اللجنة في مجملها ستؤدي إلى موجة غلاء جديدة، غير محدودة السقف الزمني، ولا القيمة في ظل، مع عدم القدرة على التنبؤ بقيمة الجنيه، وفقاً للسياسات الجديدة للبنك المركزي.
وأوضح خبير اقتصادي لـ"العربي الجديد" أن التخفيض المفاجئ في قيمة الجنيه، جاء في قرار استباقي قبيل حضور وفد صندوق النقد إلى القاهرة لوضع الاتفاق النهائي حول تقديم قرض قيمته نحو 3 مليارات دولار.
وأشار الخبير الذي فضل عدم ذكر اسمه، إلى أن صندوق النقد، طلب من الحكومة والبنك المركزي، ترك سعر الصرف لقوى العرض والطلب، متوقعاً أن تراوح قيمته بين 22 و24 جنيهاً مقابل الدولار، قبل تقديمه القرض الجديد، والاتفاق على برنامج إصلاح هيكلي، يضمن تخلص الحكومة بالبيع من عدد من الشركات العامة والمملوكة للجيش.
وأكد الخبير الاقتصادي أن حالة الجنيه ستظل متذبذبة في الأسابيع المقبلة، وستظل الحكومة متحكمة في قوى العرض والطلب، من خلال سيطرتها على حركة الطلب على الدولار التي تجري عبر البنوك المحلية وشركات الصرافة محددة التأثير، بتوجيه من البنك المركزي، بما يجعل التعويم مداراً جزئياً.
وأوضح أن مرور الطلب والعرض على الدولار من خلال قنوات رسمية، سيحول دون تأثير كبير بسعر العملة الصعبة في السوق السوداء، إذا ما التزمت الحكومة توفير طلبات الموردين والشركات التي تحتاج إلى الدولار من البنوك.
وتواجه الحكومة شحاً شديداً في الدولار، رغم كثرة المبادرات التي وجهها خلال الأسبوعين، لبيع الأراضي والعقارات ودخول سيارات دون جمارك مقابل ودائع دولار، للمصريين بالخارج.
ويتوقع أعضاء الغرف السياحية والتجارية ارتفاعاً في أسعار رحلات العمرة، والسفر، والسلع الأولية والأغذية والمشروبات خلال الأسبوع المقبل، متأثرة بانخفاض قيمة الجنيه أمام العملات العربية وتلك الرئيسية في العالم.
وأكد أعضاء بلجنة الطوارئ والأزمات بجمعية رجال الأعمال أن قرار البنك المركزي برفع الفائدة دون أن يناقش ذلك مع رجال الأعمال والنواب، وبعضهم شارك في المؤتمر الاقتصادي منذ يومين، سيعرضهم لمزيد من المتاعب المالية والقانونية، وخاصة الذين حصلوا على قروض لتمويل مشروعاتهم وصفقات لتوريد سلع غذائية وصناعية ما زالت في طريقها إلى الأسواق.