في شهر سبتمبر/أيلول 2018 تم الإعلان رسمياً عن توقف مصر عن استيراد الغاز الطبيعي المسال، بوصول آخر الشحنات المستوردة من الخارج.
وبعدها خرجت تقارير حكومية لتؤكد أن مصر صدرت 172.8 مليار قدم مكعبة من الغاز المسال في السنة المالية 2018-2019، عبر 45 شحنة من مصنع الإسالة في ميناء إدكو.
وقبلها وبعدها أعلنت الحكومة المصرية مرات عدة عن أن البلاد حققت الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، بل وتحولت من الاستيراد إلى التصدير، حيث بدأت بالفعل تصدير الفائض للخارج، كما أعلنت أن التوقف عن استيراد الغاز ساهم في تحقيق وفر مالي يصل إلى 27 مليار جنيه للموازنة العامة للدولة وهي قيمة المشتروات من الغاز.
وفي شهر مارس/آذار 2019 قال وزير البترول طارق الملا إن مصر تستهدف تصدير ملياري قدم مكعبة يوميا من الغاز الطبيعي بنهاية العام الجاري مقابل 1.1 مليار قدم مكعبة يوميا في بداية العام.
بل أكد كبار المسؤولين في وزارة البترول يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن مصر حققت فائضاً عن إنتاجها من الغاز الطبيعي من مناطق الامتياز المختلفة، يبلغ نحو مليار قدم مكعبة من الغاز يومياً مع تراجع استهلاك محطات الكهرباء والاستهلاك المحلي.
وجاءت مرحلة الاكتفاء الذاتي ثم التصدير، كما قالت الحكومة، عقب اكتشاف شركة إيني الإيطالية حقل ظُهر، وهو أكبر حقل في منطقة البحر المتوسط حتى الآن، وذلك في عام 2015، والذي يحوي احتياطات تقدر بـ 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز حسب الأرقام الرسمية، وهي احتياطيات تكفي احتياجات السوق المحلية لسنوات طويلة، بل تغطي جزءا كبيرا من احتياجات السوق الأوروبية لسنوات.
ورغم الحديث عن تصدير مصر الغاز الطبيعي وتحقيق فوائض ضخمة منه، خاصة مع الاكتشافات المتلاحقة لحقول إنتاج الغاز، سواء في الصحراء الغربية أو في مياه البحر المتوسط، إلا أن المصريين فوجئوا في شهر فبراير/شباط 2018 بإبرام صفقة استيراد الغاز من دولة الاحتلال ولمدة طويلة تصل إلى 10 سنوات وبقيمة 15 مليار دولار تم زيادتها في وقت لاحق إلى 21 مليار دولار.
وهذا المبلغ موزع بواقع 15 مليار دولار قيمة ما ستستورده مصر من حقل ليفياثان وستة مليارات دولار قيمة ما ستستورده من حقل تمار الواقع داخل المياه الاقتصادية الفلسطينية وبالقرب من قطاع غزة والذي سطت عليه دولة الاحتلال.
وبسرعة خرج علينا كبار المسؤولين في الحكومة المصرية ليؤكدوا أن الغاز المستورد من دولة الاحتلال سيوجه للتصدير في إطار خطة تستهدف تحويل مصر إلى مركز رئيسي للطاقة في المنطقة من خلال تسييل الغاز وإعادة تصديره، وبالتالي فإن الغاز الإسرائيلي المنهوب أصلا من حقول فلسطينية ومصرية لن يوجه للسوق المحلي الذي تعاني أصلا من فائض في الإنتاج.
بل إن السيسي خرج على المصريين يوم 21 فبراير/ شباط 2018 وعقب إبرام صفقة استيراد الغاز مباشرة، ليعلق، قائلا: "احنا بفضل الله جبنا جون يا مصريين في الموضوع ده... النهارده مصر حطت رجلها بأنها أصبحت المركز الإقليمي للطاقة في المنطقة، بقالي 4 سنين بحلم بالحكاية دي".
لكن ما صدر عن الجانب الإسرائيلي خلال الأيام الماضية ينسف كلية الرواية الرسمية في مصر والتي تقول إن الغاز الإسرائيلي سيعاد تصديره، وأنه لن يوجه إلى السوق المحلية، فقد أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية، أمس السبت، على الحساب التابع للوزارة على موقع تويتر (إسرائيل بالعربية) أن "الغاز الطبيعي الإسرائيلي، الذي سيبدأ بالتدفق من حقل ليفياثان الواقع في شرق البحر المتوسط مُخصص للاستخدام في السوق المحلي المصري".
نحن هنا أمام تصريحات رسمية في مصر تقول إن البلاد باتت تصدر الغاز عقب تحقيق فائض ضخم في الإنتاج، وفي نفس الوقت أمام حقيقة تقول إن مصر تستورد الغاز من دولة الاحتلال وتوجهه لتغطية احتياجات السوق المحلي، سواء لأغراض الصناعة أو للاستهلاك المنزلي.
وهذا الأمر يمثل لغزاً كبيراً ليس للمتابعين لهذا الملف فقط، بل لعموم المصريين الذين يرون أنفسهم أمام تطبيع اقتصادي إجباري مفروض عليهم، كما أنهم مطالبون بدعم الموازنة العامة الإسرائيلية عبر توفير سيولة مالية تصل إلى 21 مليار دولار توجه من جيب المواطن المصري ودافعي الضرائب لمساندة الاقتصاد الإسرائيلي الذي يواجه مشاكل كبيرة هذه الأيام.
السؤال هنا هو: إذا كانت مصر تصدر الغاز فعلا للخارج، فلماذا تستورد الغاز الإسرائيلي الذي هو أصلا غاز عربي منهوب، سواء من آبار الغاز الواقعة في المياه الإقليمية الفلسطينية قبالة قطاع غزة، أو الآبار الواقعة قبالة سواحل مصر في البحر المتوسط؟
وما صحة التقارير الصادرة عن وزارة البترول والتي أكدت مرات عدة تلبية كامل احتياجات الاستهلاك المحلى من الغاز الطبيعي لكل قطاعات الاستهلاك المختلفة بما فيها قطاع الكهرباء والصناعة ومشروعات صناعة البتروكيماويات ومشتقات الغاز، إضافة إلى الاستهلاك المنزلي وتموين السيارات؟