عين اللبنانيين على الهجرة لا على الانتخابات

17 مايو 2022
الانتخابات جرت وسط أزمات معيشية طاحنة (حسين بيضون)
+ الخط -

أجريت الانتخابات النيابية اللبنانية في 15 مايو/ أيار 2022، وهي فرصة كان من المفترض بحركة المعارضة الفتية اقتناصها لتجريد حزب الله من الأغلبية النيابية وتحقيق نجاح معتبر في مهمّة هزيمة النخبة السياسية التي أحكمت قبضتها على البلاد على مدى العقود الثلاثة الماضية وخلَّفت نتائج كارثية وحصيلة مأساوية، لكن تشتُّت المعارضة على عدد كبير من اللوائح المتنافسة قلِّص حتماً حظوظها الانتخابية وفوَّت عليها فرصة توظيف حالة الاحتقان والغضب الشعبي العارم لإحباط الطبقة السياسية التقليدية التي ما زالت تحتكر رسمياً مقاليد السلطة ومقدرات الحكم.

فقد شكَّل تعدُّد لوائح المعارضة خيبة كبيرة للناخبين الذين رغبوا بالتجمُّع خلف جبهة واحدة متماسكة وتطلَّعوا إليها كجسر يساهم ولو بالقليل في تخليصهم من أزمتهم التي تعدّ واحدة من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية خلال الـ150 عاماً الماضية، على حدّ تعبير بيانات البنك الدولي.

من المرجح أن يبقى البرلمان القادم دون تغيير كفيل بإحداث إصلاح واسع النطاق نظراً لاحتدام المعركة الانتخابية بين الوجوه نفسها القديمة العقيمة التي احترف أصحابها عضوية البرلمان، وما عاد خافياً عزوف الشباب عن المشاركة السياسية نتيجة التشاؤم المتزايد حول مستقبل لبنان الذي يتهدَّده الفقر والجوع والفوضى.

فقد سئم اللبنانيون الذين أنهكهم الشحّ الكبير في الأدوية والوقود والغذاء والسلع الأساسية الأخرى من المفاضلة بين المُرّ والأمرّ منه، ولم تعد أسطوانة مقاومة العدو الصهيوني المشروخة ولا شعارات التغيير والمحاسبة ومكافحة الفساد المتكرِّرة تؤثِّر على المعيلين الذين يكافحون لإطعام عائلاتهم و80 بالمائة من اللبنانيين الرازحين تحت وطأة الفقر و40 بالمائة من المواطنين العالقين بين مخالب البطالة.

افتقر هذا الاستحقاق النيابي لوجوه جديدة قادرة على إنهاء النظام السياسي المتصلِّب وقيادته من خلال تبنِّي برنامج انتخابي جدِّيّ متجرِّد من الطائفية ومتشرِّب بمشاريع الإصلاح وآليات التنفيذ والتطبيق.

ونظراً لعدم كون هذه الانتخابات لحظة فاصلة في محاولات لبنان المتعثِّرة لشقّ طريق الخروج من أزمته الراهنة، وافق صندوق النقد الدولي، في إطار اتِّفاق مبدئي، على الإفراج عن 3 مليارات دولار من المساعدات المالية، أي ما يعادل قطرة في محيط خسائر لبنان المالية، مقابل سلسلة من الإصلاحات غير الهيِّنة، كإعادة هيكلة القطاع المالي والدين العام الخارجي، وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، وتطوير سوق صرف العملات الأجنبية على أسس الشفافية والمصداقية والكفاءة، وتخفيض نسبة عجز الموازنة إلى 4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.

ومن المستبعد أن يتمّ تنفيذ هذه الإصلاحات بسبب الوتيرة الحلزونية التي ستسير بها عملية تشكيل حكومة جديدة. فعلى سبيل المثال استغرق تشكيل حكومة نجيب ميقاتي 13 شهراً، وعلاوة على ذلك ستستمرّ الحكومة الحالية بتصريف الأعمال فحسب بصلاحيات جدّ محدودة لا ترقى إلى سلطة مناقشة الإصلاحات والموافقة عليها، وهذا كفيل بتردِّي الأوضاع وتعريض مصالح اللبنانيين إلى الضياع.

ضاق اللبنانيون ذرعاً بتداعيات الأزمة الطاحنة وخاب أملهم في إمكانية الوصول إلى برّ الأمان والاستقرار والتعافي المالي والانفراجة الاقتصادية، وأصبحت الهجرة طوق النجاة الوحيد من شبح الفقر الذي يلتفّ بأذرعه حول رقابهم، فقد أظهرت نتائج استطلاعات الدورة السادسة من الباروميتر العربي التي أجريت بين سنتي 2020 و2021 أنّ 48 بالمائة من اللبنانيين يرغبون بالهجرة سعياً لإيجاد فرص للعيش الكريم في الخارج.

ووفق نتائج الاستطلاع، فقد أفاد 7 المائة من المستجوبين بأنّ الأوضاع الاقتصادية المزرية هي الدافع الرئيسي للهجرة، وأكَّد 44 بالمائة منهم على أنّ الفساد المستفحل وعميق الجذور هو الذي يحرِّضهم على هجر وطنهم، بينما صرَّح 29 بالمائة ممن شملهم الاستطلاع بأنّهم يريدون الهجرة من لبنان لاعتبارات أمنية، وشدَّد 22 بالمائة منهم على رغبتهم في مغادرة بلادهم لأسباب سياسية، كما عبّر المشاركون في الاستطلاع عن شعورهم بالإحباط إزاء النظام السياسي والأخطاء المتراكمة واتِّساع نطاق الفساد وعدم جدوى الإصلاحات والفشل المتكرِّر للبرلمان والحكومة في حلحلة الأزمة السياسية التي تمخَّضت عن إفلاس مالي وكساد اقتصادي.

وعلى عكس الدول الأخرى التي شملها الاستطلاع لم يكن هناك اختلاف يُذكر بين نسب الإناث (46 بالمائة)، والذكور (49 بالمائة)، الذين يرغبون بالهجرة من لبنان. والمثير للقلق أنّ 63 بالمائة من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً يريدون بشدّة مغادرة لبنان بسبب عدم القدرة على تغيير الواقع والخضوع للمتغيِّرات وفقدان الأمل في حاضر ظالم ومستقبل مظلم.

وما يزيد الطين بلّة هو خطر هجرة العقول المبدعة والطاقات الشابة، فقد صرَّح 61 بالمائة من المستجوبين الحاصلين على شهادات جامعية برغبتهم الشديدة في الهجرة إلى الخارج، مقارنة بـ37 بالمائة من مستويات التعليم الثانوي وأقل.

أصبحت الرغبة بالهجرة سائدة بين اللبنانيين أكثر من ذي قبل، حيث أظهرت نتائج استطلاعات الدورة الخامسة من الباروميتر العربي التي أجريت بين سنتي 2018 و2019 أنّ 26 بالمائة من اللبنانيين صرَّحوا برغبتهم في الهجرة إلى الخارج سواء بطرق شرعية أو غير شرعية، وهذه نتيجة طبيعية لإفرازات النهب والفساد والفقر والتهميش والبطالة وصراع الطوائف.

خلاصة القول، حتى لو ارتفع منسوب التفاؤل بشأن تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية بفترة قصيرة، يمكن لسِجِلّ لبنان الضعيف في تنفيذ الإصلاحات أن يطفئ كل بصيص أمل في الخروج من عنق الزجاجة.

فقد سبق أن تعهَّد المجتمع الدولي بمنح لبنان قروضاً ومساعدات وهبات بقيمة 11 مليار دولار خلال مؤتمر "سيدر" بباريس في إبريل/ نيسان 2018 شريطة تنفيذ مجموعة من الإصلاحات، فلا إصلاحات تحقَّقت ولا مليارات من الدولارات تدفقت إلى الخزينة اللبنانية.

وهكذا تشكَّلت قناعة راسخة لدى اللبنانيين بأنّ السياسيين هم الذين عجَّلوا بالانهيار الاقتصادي في لبنان ودفعوا به إلى قطيعة خليجية نتيجة جشعهم وقراراتهم الخاطئة ورهاناتهم الخاسرة ومشاريعهم المشبوهة، لذلك قابلت شريحة من اللبنانيين هذه الانتخابات النيابية بمزيج من اللامبالاة والسخرية بانتظار أن تسنح لهم فرصة للهجرة إلى دول توفِّر لهم ملاذاً آمناً ومستقبلاً واعداً.

المساهمون