أنشأ قانون النقد والتسليف اللبناني، الصادر عام 1963، مصرف لبنان بوصفه مؤسسة تتمتّع بالاستقلاليّة الماليّة والمعنويّة التامّة، وأعطاه القانون منذ ذلك الوقت امتياز إصدار النقد بالنيابة عن الدولة اللبنانيّة. ثم أعطى القانون نفسه مصرف لبنان صلاحيّة وضع السياسة النقديّة والحفاظ على قيمة العملة المحليّة، وتنظيم القطاع المصرفي والحفاظ على سلامته، بالإضافة إلى تطوير أسواق المال والنقد ووسائل الدفع والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. وبذلك، وضع القانون الإطار التشريعي الأوّل لما بات مصرف الدولة اللبنانيّة المركزي، بعدما لعب هذا الدور سابقًا بنك سورية ولبنان منذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.
بعد مرور 59 عامًا على تأسيس المصرف المركزي، المعروف محليًّا بمصرف لبنان، باتت ميزانيّات المصرف تعج بأكثر من 60 مليار دولار من الخسائر المتراكمة بشكل غير منطقي، والتي تمثّل الفارق بين التزامات وموجودات المصرف بالعملة الصعبة. وهذه الخسائر كانت كفيلة بالإطاحة بدولارات المودعين التي وظفتها المصارف لدى المصرف المركزي، فبات مصرف لبنان مصدرًا من مصادر المخاطر التي ضربت القطاع المالي في البلاد، بدل أن يمارس مهمّة الحفاظ على القطاع وصيانته، بحسب المهام التي وضعها له القانون الذي أنشأه.
مع الإشارة إلى أنّ حجم هذه الخسائر المتراكمة، والتي لم يتم تنظيف الميزانيّات منها حتّى اللحظة، يوازي نحو 2.75 مرّة قيمة الناتج المحلّي للبلاد، وهو ما مثّل حالة غير مألوفة في عالم المصارف المركزيّة.
السؤال الأساسي هنا بات يدور حول كيفيّة تراكم هذه الخسائر بصمت على مدى أكثر من تسع سنوات قبل العام 2019، قام خلالها المصرف المركزي بتبديد الدولارات الموجودة لديه، عبر دفع الفوائد والأرباح الفاحشة للمصارف، من أجل استقطاب المزيد من أموال مودعيها. كما استعمل المصرف المركزي هذه الدولارات عبر بيعها بسعر الصرف الرسمي، وهي عمليّة تم استعمالها لتمويل تحويلات بعض كبار المودعين إلى الخارج، بالإضافة إلى تمويل الاستيراد.
فبين عامي 2011 و2019، أي خلال تسع سنوات، هندس المصرف المركزي ما بات يُعرف اليوم بعمليّة "البونزي" التي ضخّمت الخسائر سرًّا بشكل تدريجي، دون أن يشعر الرأي العام بما يجري، قبل أن تنفجر الأمور مع انفضاح أزمة السيولة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019. وهكذا، لم يكن الانهيار الذي يشهده لبنان منذ العام 2019، وأدّى إلى الأزمة المصرفيّة الراهنة، إلا نتيجة تراكمات سابقة تسببت بفجوة مخفيّة في الميزانيّات، وهو ما انكشف بعد حصول الانهيار، لكن بعد فوات الأوان.
باختصار، ما جرى كفيل للدلالة على وجود أزمة في ما يتعلّق بحوكمة المصرف المركزي، وهيكليّته والأطر الكفيلة بالمراقبة والمحاسبة والتدقيق بأرقامه، خصوصًا أن إخفاء أزمة من هذا النوع لسنوات طويلة، وتسببها بخسائر متراكمة بهذا الحجم، لا يمكن أن يحصل إلا بغياب آليّات الإفصاح المالي الشفّافة. مع الإشارة إلى أنّ اللبنانيين اكتشفوا أن عمليّة إخفاء الخسائر، وتفادي التصريح عنها، لم تحصل إلّا باعتماد مقاربات محاسبيّة غريبة، قامت على تسجيل موجودات وهميّة في الميزانيّات بدل التصريح سنويًّا عن الخسائر التي كان يتكبدها المصرف المركزي.
لكنّ أزمة الحوكمة والشفافيّة في مصرف لبنان لم تقتصر على هذا الجانب من عمليّاته. ففي التاسع من شهر حزيران/ يونيو 2022، وبنتيجة تحقيقات جنائيّة مطوّلة قام بها القضاء اللبناني، قرّر النائب العام التمييزي غسان عويدات، أعلى سلطة ادعاء في الجمهوريّة اللبنانيّة، طلب تحريك دعوى الحق العام ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
أمّا لائحة الجرائم التي قرّر عويدات تقديم طلب الادعاء على أساسها على سلامة، فتشمل الاختلاس والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي. كما تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة أربع دول أوروبيّة تحقق مع حاكم مصرف لبنان بالتهم ذاتها، فيما وصلت التحقيقات إلى مرحلة الحجز على ممتلكات وحسابات الحاكم في أوروبا.
جميع هذه التهم ترتبط بفضيحة "شركة فوري"، وهي شركة غامضة سجّلها حاكم مصرف لبنان باسم شقيقه رجا سلامة، وأعطاها "وكالة" تسمح لها بالتوسّط لبيع منتجات ماليّة بالنيابة عن المصرف المركزي، وهو ما سمح للشركة بجني عمولات تقارب قيمتها 330 مليون دولار.
وفي النتيجة، تبيّن أن "فوري" لم تكن سوى شركة وهميّة لم تقدّم أي خدمات ماليّة تُذكر للمصرف المركزي أو لغيره، ما عنى أنّها جنت كل هذه العمولات بشكل غير مبرّر، فيما استفاد الحاكم من موقعه لتوقيع عقد الوكالة مع الشركة المسجّلة باسم شقيقه. كما تبيّن أن عقود بيع المنتجات الماليّة، التي نالت على أساسها "فوري" العمولات، لم تأت على ذكر هذه الشركة الوهميّة، ما عزّز الاعتقاد بأن العمليّة لم تكن سوى ستار للسطو على المال العام.
في حكاية شركة فوري، تبيّن أن هذه الكميّة الخياليّة من الأموال العامّة انتقلت بسحر ساحر إلى حسابات شركة خاصّة في الخارج، دون أن يمر العقد بأي إطار رقابي داخل المصرف المركزي، بل ودون أن تتم حتّى دراسة ملف الشركة داخل دوائر المصرف.
ببساطة شديدة، كانت تواقيع حاكم مصرف لبنان وحدها كفيلة بمنح الشركة حق "الوساطة" المزعومة، ومن ثم حق تحويل هذه الأموال إلى حسابات عائلة رياض سلامة في أوروبا.
ومرّة جديدة، كانت هذه الوقائع مناسبة جديدة لمراجعة آليّات الحوكمة والرقابة في مصرف لبنان، وهيكليّته وطريقة اتخاذ القرار، خصوصًا أن أي مؤسسة ماليّة يُفترض أن تملك الحد الأدنى من الضوابط التي ترعى عقودها الحسّاسة، فما بالك بمصرف مركزي يُفترض أن يكون المؤتمن على سلامة النظام المالي بأسره.
في واقع الأمر، لا يحتاج المرء إلى الكثير من التدقيق ليفهم إشكاليّات الحوكمة في هيكليّة مصرف لبنان، وخصوصًا حين يرى حجم الصلاحيّات المتعارضة والمتشابكة المنوطة بشخص واحد، هو حاكم مصرف لبنان. بل وبإمكان المرء أن يلاحظ بسهولة حجم تضارب الصلاحيّات الذي يمكن أن ينشأ، بمجرّد حصر كل هذه المهام في شخص الحاكم، بمعزل عن هويّته أو نزاهته.
فحاكم مصرف لبنان يرأس بحكم وظيفته المجلس المركزي، المكلّف بإدارة الشأن النقدي، ويضع وحده التعاميم الكفيلة بتنظيم القطاع المصرفي، وتحديد معدلات الملاءة والسيولة والاحتياطات الإلزاميّة، وهو أيضًا من يرأس هيئة التحقيق الخاصّة، التي تحتكر وحدها، وبشكل استنسابي، صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة أمام السلطات القضائيّة والضريبيّة. والحاكم يرأس هيئة الأسواق الماليّة، كما يرأس الهيئة المصرفيّة العليا المكلّفة بالمحاسبة عند حصول مخالفات للتنظيمات والقوانين المصرفيّة. وفي الوقت نفسه، لا يمكن للجنة الرقابة على المصارف أن تقوم بأي إجراء أو مراسلة، ما لم يمر ذلك بالحاكم نفسه.
في النتيجة، ثمة شخص واحد في مصرف لبنان هو من ينظّم عمل القطاع المصرفي، ويراقبه ويحاسبه ويحقق في مخالفاته، ويرفع السريّة المصرفيّة عن حساباته، ويضع السياسة النقديّة للنظام المالي. وهنا، يصبح الشخص الذي ينظّم القطاع هو نفسه المسؤول عن المراقبة لتبيان المخاطر التي يمكن أن تنشأ نتيجة أخطائه هو، وهو نفسه المسؤول عن المحاسبة حتّى حين ترتبط الأخطاء بالقرارات التي اتخذها بنفسه.
ولذلك، يصبح من الواضح أن تركّز الصلاحيّات وتعارضها وتضاربها كان من الإشكاليّات التي أدّت إلى الأخطاء المميتة في إدارة مصرف لبنان، وهو ما دفع صندوق النقد إلى المطالبة بإعادة هيكلة المصرف المركزي كجزء من مسار التصحيح المالي.