دعوات مريبة وتحريضية انطلقت بشكل مفاجئ ضد المستثمرين والتجار السوريين في مصر، حملات مكثّفة مجهولة المصدر، فلا أحد يعرف بالضبط من يقف خلفها، ويحركها بهذه السرعة، ويديرها، ويوعز بنشرها على نطاق واسع، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي، أو بعض الصحف والفضائيات، أو حتى بين جلسات النميمة داخل النوادي الرياضية والاجتماعية الشهيرة، وعلى لسان سائقي التاكسيات والتوك توك.
ولا أحد يعرف، ما سبب إطلاق دعوات "مقاطعة محلات السوريين في مصر" بهذه الغزارة وفي هذا التوقيت، علما بأن السوريين ضخوا مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد المصري على مدى ما يقرب من 13 سنة خاصة في قطاع الخدمات والمطاعم، ويقدمون خدمة جيدة بشهادة ملايين المصريين؟
وما علاقة تلك الحملات الجديدة القديمة بأزمات الاقتصاد المصري، وفي مقدمتها أزمة سعر الدولار الذي يواصل ارتفاعه مقابل الجنيه، رغم الترويج على نطاق واسع بقرب تدفق عشرات المليارات من الدولارات على الاقتصاد المصري، سواء من صندوق النقد الدولي، أو الاتحاد الأوروبي، أو أصحاب الأموال الساخنة وحملة السندات الدولية، أو من الراغبين في شراء الأصول المصرية المطروحة للبيع، سواء كانت بنوكاً أو شركات أو حتى أراضي ومستشفيات ومعامل تحاليل؟
لا أحد يعرف، ما سبب إطلاق دعوات "مقاطعة محلات السوريين في مصر" بهذه الغزارة وفي هذا التوقيت، وما علاقتها بأزمات الاقتصاد المصري
وهل هناك علاقة بين تلك الدعوات ومحاولة البعض سكب مزيد من الزيت على أوضاع الاقتصاد المصري التي تحتاج أصلاً إلى ترميم قوي وسريع، في ظل التحديات والأزمات التي تمر بها.
كما يحتاج الاقتصاد أكثر من أي وقت مضى إلى طمأنة المستثمرين العرب والأجانب في مصر على أموالهم ومشروعاتهم، وليس إثارة الذعر بينهم، كما يحدث مع انطلاق تلك الحملات الخبيثة والمقززة؟
ببساطة وبشكل مفاجئ وجد المصريون أنفسهم أمام دعوتين، الأولى تدعو لمقاطعة محال ومتاجر ومطاعم السوريين في مصر، أما الثانية فهي تدعو لشراء المنتج المحلي على حساب الأجنبي تحت وسم "مش _هشتري_غير_من_المصري".
وللأسف واكب الدعوتين حملات تحريض ضد السوريين في مصر، والذين يتجاوز عددهم نحو 1.5 مليون شخص، وإطلاق ألفاظ بذيئة وكلمات عنصرية وسجالات وخناقات، وكأنها معركة حقيقية.
وغذّى البعض الحملة الأولى بترويج عشرات الآلاف من التغريدات والبوستات ومقاطع الصور والفيديوهات القديمة التي حمل بعضها تجاوزاً لفظياً وسلوكاً لا أخلاقياً بحق الأشقاء السوريين.
كما صاحبها ادعاءات ومزاعم مختلفة وقديمة، منها مثلاً اتهام مطاعم السوريين ببيع لحوم فاسدة وبضائع منتهية الصلاحية، وهذا ادعاء لا دليل عليه من جهات رسمية أو محايدة، وإن حدث فإن نسبته في مطاعم السوريين لا تختلف عما هو موجود في المطاعم الأخرى، سواء التي يملكها مصريون أو عرب أو أجانب مقيمون في مصر.
هناك مزاعم أخرى تتجدد، منها مثلاً أن السوريين هم سبب أزمة الدولار في مصر، بسبب تحويلاتهم السنوية الضخمة للخارج
وهناك مزاعم أخرى تتجدد، منها مثلاً أن اللاجئين السوريين هم سبب أزمة الدولار في مصر، بسبب تحويلاتهم السنوية الضخمة للخارج، سواء لذويهم داخل سورية وتركيا أو في دول أخرى.
رغم أن المتابع لحال سوق الصرف في مصر يجد أن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الحالية هو ضخامة أعباء الديون الخارجية، وتراجع إيرادات النقد الأجنبي بنسبة تصل إلى نحو 17.5% خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2023، وهذا التراجع زاد عقب انطلاق الحرب على غزة، وما صاحبها من تأثيرات سلبية على أنشطة حيوية مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية.
فوفق أحدث الأرقام الصادرة عن البنك المركزي المصري، فإن إيرادات مصر فقدت نحو 13.9 مليار دولار من 5 مصادر أساسية، هي الصادرات، وتحويلات المغتربين، والسياحة، وقناة السويس، وصافي الاستثمار الأجنبي المباشر، وذلك في أول 9 أشهر من عام 2023 مقارنة بالمستوى الذي كانت عليه التدفقات خلال الفترة نفسها من عام 2022.
وأن حصيلة مصر من النقد الأجنبي من تلك المصادر الخمسة بلغت نحو 65.6 مليار دولار مقابل نحو 79.6 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2022، أي إن مصر فقدت 14 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم مقارنة بالإيرادات الدولارية الكلية.
أتفهم انطلاق دعوات تدعو لشراء المنتج المحلي، فهذه دعوة مطلوب مساندتها وبقوة، وأتفهم الدعوة لمقاطعة السلع الإسرائيلية في الأسواق المصرية
أتفهم انطلاق دعوات تدعو لشراء المنتج المحلي، فهذه دعوة مطلوب مساندتها وبقوة، وأتفهم الدعوة لمقاطعة السلع والمنتجات الإسرائيلية في الأسواق المصرية، والتي قد ترد إلى البلاد من دول وسيطة، بعد تغيير بيانات دولة المنشأ الحقيقية وهي إسرائيل.
وأتفهم دعم الشارع المصري حملات مقاطعة السلع ومنتجات الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، بخاصة تلك المنتجة من شركات تصرّ على مواصلة تقديم الدعم لجيش الاحتلال في حربه على أهالي غزة، لكن أن تنطلق في هذا التوقيت حملات تدعو لمقاطعة محال السوريين في مصر وتهدد أرزاقهم، فهذا أمر يدعو للشك والريبة.