كشف عدد من أهالي عزبة أبو رجب التابعة لمدينة بهتيم، إحدى ضواحي شمال مدينة القاهرة، عن مخطط حكومي يشمل تهجير الأهالي والاستيلاء على أراضي العزبة وضمها مع 500 فدان زراعية أخرى تمتلكها المحطة البحثية بمدينة بهتيم، والتابعة لمركز البحوث الزراعية إلى جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، وتحويلها إلى مشروع سكني تحت مسمى، سكن لكلّ المصريين.
وبررت الحكومة المصرية سبب اختيار العزبة التي لا تزيد مساحتها على ثلاثة أفدنة للبناء عليها بإيقاف النمو العشوائي للمباني في العزبة، وفق رواية الأهالي على مواقع التواصل الاجتماعي.
العزبة المستهدفة ضحية موقعها الجغرافي الذي يقع عند تقاطع محور العصار مع طريق شبرا بنها الحرّ والطريق الدائري. بدأ مخطط الاستيلاء على العزبة طمعاً في موقعها الاستراتيجي بإعلان إدارة محطة البحوث الزراعية بمدينة بهتيم مباني العزبة أملاكاً عامة للدولة ومساكن إدارية لموظفين لديها، بحكم أنّ أراضي المحطة تحيط بمساكن العزبة، وأنّ معظم الأهالي يعملون عمالاً زراعيين وإداريين في محطة البحوث.
وقامت إدارة البحوث الزراعية في سنة 2014، بعد شهور من تولي الجنرال السيسي الحكم، بتحرير محضر ضد كل من يحاول بناء دور إضافي من أهالي العزبة على منزله بدعوى التعدي على سكن إداري تابع للدولة.
وهي فرية غير قانونية، لأنّ صور الأوراق والوثائق الرسمية التي عرضها الأهالي لملكية البيوت والأراضي وحظائر المواشي وعقود الزواج وشهادات الميلاد والوفاة تثبت أنّ العزبة بُنيت وتأسست في سنة 1835 ميلادية. أما مركز البحوث الزراعية فقد تأسس بعد بناء العزبة بحوالى قرن ونصف تقريباً في سنة 1969.
ذلك أنّ لجنة استرداد أراضي الدولة المنهوبة، التي شكلها بقرار جمهوري الجنرال عبد الفتاح السيسي في فبراير/ شباط 2016 برئاسة إبراهيم محلب، مستشار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق، لم تدّعِ أنّ العزبة مقامة على أراضي الدولة، ولو كانت كذلك لما قصرت اللجنة يوماً واحداً في استردادها وإزالة التعدي عليها وضمها إلى المشاريع العقارية للقوات المسلحة لاستثمارها بحكم واقعها الجغرافي المستجد.
أحد سكان العزبة قال إنّ الأهالي فوجئوا قبل شهر بإعلانات رسمية من إدارة مركز البحوث الزراعية تنذرهم بضرورة إخلاء منازلهم قبل نهاية فبراير الماضي، وإلا تدخلت مديرية الأمن ونفذت القرار بالقوة، مقابل تعويض، من دون ذكر قيمة التعويض.
لكن موظفين قالوا إن تعويض البيوت ذات الأعمدة الخرسانية يبلغ ألفي جنيه للمتر، والبيت دون الأعمدة الخرسانية 1500 جنيه للمتر، والبيوت ذات الأسقف الخشبية سيحصل أصحابها على تعويض يقدر بألف جنيه للمتر، مع استبعاد طلب الأهالي الحصول على وحدات سكنية في المشروع الجديد الذي ستنفذه القوات المسلحة.
ورغم قيامهم بدور العراب وتسهيل استيلاء الجيش على العزبة بالخداع، دفع القائمون على إدارة محطة البحوث الزراعية ببهتيم الثمن، فلم يقنع الجيش بالاستيلاء على أرض العزبة التي لا تزيد مساحتها على ثلاثة أفدنة فقط، بل ضمّ الأراضي الزراعية المملوكة للمحطة البحثية ومساحتها 500 فدان إلى المخطط السكني للمشروع!
اتضح بعد ذلك أن اعتداء إدارة محطة البحوث الزراعية على حقوق الملكية الخاصة لأهالي العزبة كان ضمن مخطط معد مسبقاً بالاتفاق مع الإدارة المحلية بمحافظة القليوبية يشمل حرمان العزبة الخدمات العامة ومنع دخول شبكة الصرف الصحي للعزبة حتى انتشرت مياه الصرف في الشوارع واختلطت بأكوام القمامة المتراكمة في الشوارع، رغم تبعيتها إدارياً لمدينة القاهرة الكبرى، مع شكوى أهالي العزبة المستمرة.
وبعد الانتهاء من إنشاء محور العصار المروري في سنة 2019 الذي يمر بجوار مساكن العزبة الريفية ويتقاطع مع الطريق الواصل بين مدينتي شبرا وبنها شمال القاهرة ويمر هو الآخر بجوار مساكن العزبة مخترقاً الأراضي الزراعية، صدر قرار من مجلس الوزراء بنزع ملكية الأراضي المقامة عليها بيوت أهالي العزبة للمنفعة العامة.
ما من شك في أن طرد أهالي عزبة أبو رجب من بيوتهم التي ولدوا فيها وأراضيهم الزراعية التي عاشوا على خيراتها عقوداً طويلة وآلت إليهم بالميراث الشرعي يخالف مبادئ الدستور المصري، الذي تنص المادة الـ35 منه على أنّ الملكية الخاصة مصونة وحق الإرث فيها مكفول ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلّا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدماً وفقاً للقانون.
لكنّ مبرر المنفعة العامة هنا ليس مسوغاً دستورياً لنزع ملكية الأراضي الزراعية بقدر ما أصبح غطاءً لاستيلاء الجيش على الأراضي الزراعية وإقامة مشروعات سكنية استثمارية للأغنياء والأثرياء في المقام الأول.
وأصبحت عبارة نزع الملكية للمنفعة العامة سيئة السمعة بعد توسع الجنرال السيسي في استخدامها كمبرر لنزع ملكية الأراضي الزراعية وتسليمها للجيش الذي يستخدمها في الاستثمار العقاري.
وفي سنة 2018 قام بتعديل قانون نزع الملكية للمنفعة العامة والصادر في سنة 1990 ليعطي رئيس الجمهورية الحق في تفويض غيره من الوزراء والمحافظين في تقرير صفة المنفعة العامة لنزع ملكية الأراضي، بحجة إنجاز مشروعات الدولة الجاري تنفيذها بعيداً عن الروتين، وشمل التعديل زيادة قيمة التعويض لأصحاب الأراضي محل نزع الملكية بنسبة 20% عن الأسعار السائدة، لإغراء أصحابها بالتنازل طمعاً في قيمة التعويض المبالغ فيه.
الدستور يلزم الدولة في مادته الـ29 بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها وتجريم الاعتداء عليها، فضلاً عن التسبب في تبويرها والبناء عليها. كذلك يلزم الدولة بتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه وحمايتهم من المخاطر البيئية.
أما قيام الحكومة بتبوير الأراضي الزراعية والبناء عليها وتحويلها إلى مجتمعات عمرانية بزعم المنفعة العامة وطرد أهلها المستضعفين منها فهو ما لا يمكن وصفه إلّا بأنّه جريمة دولة. ذلك أنّ المنفعة العامة لا تنطبق إلّا على الأراضي الزراعية الخصبة فقط، وفي الظهير الصحراوي الذي يشغل 90% من مساحة مصر منفعة عامة ومتسع لمشاريع الجيش السكنية وغيرها؟!
ولا يعذر الجنرال السيسي في اقتراف جريمة البناء على الأراضي الزراعية بجهل، وقد أكد أن التجمعات العمرانية الجديدة في الظهير الصحراوي هدفها المحافظة على الرقعة الزراعية، وهي الأراضي التي تكونت على مدى مئات السنين على امتداد نهر النيل ولا تكلفنا استصلاح ونقل المياه إلى الظهير الصحراوي، التي تقدر بمليارات الجنيهات، وأن البناء على الأراضي الزراعية يضيع الكثير من الفرص على الأفراد وعلى البلد، والتكلفة العالية لاستصلاح الأراضي الصحراوية التي لن تكون بذات جودة وخصوبة الأرض السوداء، وذلك خلال كلمته في مؤتمر أسيوط في شهر ديسمبر سنة 2021. وبذلك تنتفي جهالة النظام بخطورة البناء على الأراضي الزراعية بحجة المنفعة العامة.وهل ترجى منفعة من وراء تبوير الأراضي الزراعية التي لا تعوض بثمن وتهجير الأهالي منها وحرمانهم فرص العمل الذي يجيدونه وهم يكفون الدولة همّ توفير الوظائف والنقل والمواصلات والرواتب؟!
وهناك مفارقة أخرى، وهي أنّ الجنرال السيسي يتوسع في نزع ملكية الأراضي الزراعية للبناء عليها بحجة المنفعة العامة وهو في الوقت نفسه يرفع شعار حماية الرقعة الزراعية من الاعتداء عليها، ويعتبر البناء عليها جريمة مخلة بالشرف ولا تقل عن خطورة سد النهضة الإثيوبي، وقامت الحكومة بتعديل قانون العقوبات رقم 164 لسنة 2019 الخاص بالتعدي على الأراضي الزراعية، ونص التعديل على تغليظ العقوبة إلى السجن مدة سنتين إلى خمس سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه، والعزل من الوظيفة العمومية أو زوال صفته وبردّ الأرض لأصلها على نفقته، فضلاً عن دفع قيمة ما عاد عليه من منفعة.
لكنّ تصرفاته على الأرض تناقض تصريحاته، فهو يجرّم البناء على الأراضي الزراعية، ثم يتوسع في نزع ملكية الأراضي الزراعية الخصبة التي لا تقدر بثمن ويهجر أصحابها منها ثم يسلمها للجيش بقرارات جمهورية محصنة، ليقوم الأخير بالبناء عليها ويشق الطرق الطويلة العريضة في حقولها بحجة المنفعة العامة. منها 35 جزيرة في النيل، و14 ألف كيلومتر مربع على جانبي الطريق، و26 ألف فدان بالحزم الأخضر بمدينة السادس من أكتوبر، و60 ألف فدان بمدينة السادات، وغيرها.
وقد أصدر وزير الزراعة في عهده قراراً أجاز فيه نزع ملكية الأراضي الزراعية للمنفعة العامة واستخدامها في إنشاء الطرق العامة والتوسعة والكباري والسلاسل التجارية والمولات التي تقيمها الحكومة، وهي الأنشطة التي بدأت القوات المسلحة الاستثمار فيها في عهد السيسي ولم يكن يسمح لها بأن تستخدم الأراضي الزراعية لهذه الأغراض في الماضي.
ورغم رفعه شعار حماية الرقعة الزراعية، صرّح الجنرال السيسي بعدم ممانعته البناء على الأرض الزراعية بقوله: "أنا بقبل إني أبني... وحتى على أرض زراعية؟ أيوة طبعاً، لكن أنا أخطط لك الأرض... وأبني لك حتى لو كانت على أرض زراعية" وذلك في تصريح له في محافظة الإسكندرية في نهاية أغسطس/ آب سنة 2020. فهل بناء المواطن على أرضه الزراعية جريمة مخلة بالشرف، وبناء الجيش على ذات الأرض الزراعية منفعة عامة؟!