ظروف وشروط العمل في ظل الجائحة

13 ديسمبر 2021
بريطانيا تفرض إجراءات احترازية لحماية مواطنيها من أوميكرون (getty)
+ الخط -
فرضت جائحة كورونا على العالم، بوصفها ظرفاً استثنائياً، وكارثة وبائية، تغيرات في بيئة الاقتصاد، وبعد ثلاث سنوات لا يبدو أن العالم سيتعافى قريباً، خاصة مع ظهور سلالات جديدة (مثل سلالة أوميكرون)، وتتوقع مؤسسات اقتصادية دولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين أنها ستترك أثاراً سلبية على الاقتصاد، بما فيه معدلات النمو، وعمليات الإنتاج والتشغيل وحركة السوق، وستتعمق أزمة مواجهة الوباء، المرتبطة بافتقاد العدالة الصحية، وعدم كفاية اللقاحات (أدوية) وتعثر وصولها إلى كل البلدان.
ومع آثار الوباء، زادت، خاصة في ما يتعلق بظروف العمل وشروطه، وتشابهت الضغوط في ملامحها العامة، كارتفاع مستوى تسريح العمالة وارتفاع البطالة، وأحياناً حلول تكيفية، كتخفيض في الأجور، بعضه جرى تقنينه قانوناً، وأن تكون الأجور مقابل ساعات العمل الفعلية.
 
تؤثر علاقات القوة في التفاوض بين أطراف العمل، الشركات والعمال، فتنتج أوضاع مختلفة نسبياً في كل دولة. فتطبيق سياسات وقوانين تشغيل تقلل مستوى الاستغلال، كما تتفاوت التغيرات الجديدة على خلفية الوباء بين دولة وأخرى، رغم التشابه في سياقات الأزمة.
ففي فرنسا، على سبيل المثال، شهدت شركات كبرى عمليات تسريح للعمال وتخفيض للأجور وكذلك أميركا، كما تؤثر سمات سوق العمل ومستويات العرض والطلب وتلعب دوراً مهماً في تحديد ظروف العمل في ظل الجائحة. وتدفع الأزمات عموماً، ومنها الكوارث والأوبئة طرفي العمل (الشركات والمشتغلين) إلى اتخاذ مواقف تكيفية مع المتغيرات، سواء كان ذلك من طريق تفاوض معلن أو ضمني بين العمال ومؤسسات التشغيل، وسواء كان مقنناً قانونياً كما جرى في السعودية والأردن، أو غير مقنن، كما جرى في مصر، التي اشترطت فيها الجهات الحكومية صرف مساعدات كورونا للمؤسسات مقابل عدم تسريح العمال أو تخفيض الأجور.

وتجلت وسط الجائحة أهمية الصحة والسلامة المهنية، واتخاذ أساليب عمل تحدّ من انتشار الوباء، لكن هذه الإجراءات لم تحظَ عموماً باهتمام كافٍ في مصر، وباستثناء خطوات اتخذتها بعض شركات القطاع العام، كتخفيض معدلات وكثافة التشغيل عبر التناوب، خاصة في الموجة الأولى لكورونا، فإن معظم شركات القطاع الخاص لم تعدل خطط التشغيل أو تخفف كثافة العاملين إلا في ما ندر، بل إن قطاعات مثل البناء والتشييد ظلت قريبة من مستويات التشغيل قبل كورونا، كما لم توفر أغلبها مستلزمات الوقاية المناسبة لتقليل نسب العدوى بين العاملين.

بالرغم من أن القانون يفرض إجراءات الصحة المهنية بشكل اعتيادي، ويعتبر وباء كورونا حالة من حالات الطوارئ الصحية التي يجب فيها اتخاذ إجراءات استثنائية. فخ العمل المنزلي وبجانب الصحة المهنية، هناك ساعات العمل التي امتدت في بعض القطاعات التي يمكنها متابعة مهامها من المنزل، وعبر شهادات عديدة، ظل العاملون من المنزل في حالة عمل أقرب إلى الطوارئ، ليمتد العمل بعد الساعات الرسمية التي اعتادوها، وظل نمط سائد في أثناء الجائحة لكثير من المهنيين، وهنا وظفت ضروريات التباعد لتكون في مصلحة الرأسمال من جهتين، الأولى زيادة ساعات العمل.

والثانية تخفيض الأجور، غير ممارسة ضغوط متزايدة على العمال، وتخفيض نسبة من مصاريف التشغيل، وربما أدى ذلك مستقبلاً إلى استمرار بعض الشركات في هذا النمط من العمل الذي يعمّق علاقات وعقود العمل الهشة، ويزيد من حالات التشغيل دون عقود، ويهدر بذلك الحد الأدنى من حقوق العمال، غير غياب مظلة تأمينية. مع العمل المنزلي تحولت في بعض الأحيان ساعات الصباح والنهار إلى عمل ممتد، تختلط ساعات الدوام مع الأدوار الاجتماعية خارجه، التجربة تشبه إلى حد بعيد العمل طوال اليوم، كما يحمل العمل المنزلي، خسارة التفاعل الاجتماعي والعلاقات المهنية في بيئة العمل، التي تقلّ عبر نموذج العمل من بعد.

هذا في جانب منه يضمن سيطرة أكبر من المديرين التنفيذيين وأصحاب العمل عموماً، ويقلل إمكانية تكون مجموعات مهنية أو مجموعات ضغط تطالب بحقوق أو مستحقات العمال في حال وقوع انتهاكات، يخسر العمال قدرتهم على الضغط والاحتشاد والعمل الجماعي ويفقدون إحدى أهم أدواتهم في الدفاع عن حقوقهم، ويتحولون إلى أفراد، لا جماعة من المشتغلين بينهم ترابط وموقف جمعي. هذا النمط من العمل، وإن كانت فرضته الجائحة، إلا أنه قد يؤدي في بعض الأحيان إلى زيادة الربح، عبر تقليل تكلفة التشغيل، وتستخدمه الشركات المتقدمة المتصفة بالحداثة حالياً، وبعض المصانع قديماً التي ما زالت قائمة، وتعهد للعمال اليدويين للعمل بالمنازل في مهام التجميع على سبيل المثال، في قطاعات منها الملابس والجلود والإكسسوارات وغيرها، أي إن الرأسمال يعود عبر الجائحة لتنوع أساليب العمل، لكن الغرض يبقى استمرار حركة السوق وتعظيم الأرباح وتقليل التكلفة، وقدر أكبر من استغلال اليد العاملة.

أكبر أزمة في سوق العمل عالمياً تبقى الآثار الأكثر قسوة لدى الذين خُفضت أجورهم في ظل الجائحة، ومن فقدوا أعمالهم نتاج انخفاض الطلب على السلع والخدمات، وهناك فئات لم يكن ممكناً العمل عن بعد، وأدت سياسة التباعد الاجتماعي إلى فقدانهم للعمل، حسب دراسة صندوق النقد الدولي "وجدنا أن العمال في قطاعات الأغذية والإقامة، وتجارة الجملة والتجزئة هم الأشد تضرراً، لأن وظائفهم هي الأقل" قابلية للأداء عن بُعد "على الإطلاق"، وما يزيد الأمر صعوبة أن "العمال ذوي الدخول المنخفضة يعملون في مجالات الضيافة والأغذية والبناء".

وتشير دراسات وتقارير عديدة إلى ارتفاع معدلات البطالة في مصر، منها إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، حول المتعطلين، وفي الربع الثاني من عام 2020 عاودت البطالة الارتفاع، وأوضحت دراسة الجهاز عن تداعيات كورونا التي تناولت الفترة من بداية الجائحة وحتى مايو 2020 أن ما يزيد على ربع قوة العمل (26.2 بالمائة) تعطلوا، غير ما يزيد على 18 بالمائة يعملون بشكل متقطع. وترتب عن ذلك انخفاض دخول العديد من الأسر، نتاج التعطل أو انخفاض الطلب على النشاط المنخرطين فيه، أو قرار صاحب العمل بالإغلاق بسبب الإجراءات الاحترازية، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات الاقتراض من الغير (الأقارب والمحيط الاجتماعي).

وفي تقرير لمنظمة العمل الدولية قدّر "أن سوق العمل يمرّ بأكبر أزمة عالمية"، في وقت افتقد فيه التوازن في التوجهات المتعلقة بالدعم الحكومي ما بين أصحاب رؤوس الأموال والشركات والطبقة العاملة من ناحية أخرى، وحسب تقرير رصد استجابات الدول لفيروس كورونا "Policy Responses to Mitigate the Impact of Covid19"، إن ما يزيد على 50 بالمائة من المخصصات ذهب إلى دعم السياسات المالية، وأظهرت الجائحة انحيازات السياسات الاقتصادية الحكومية عموماً، واختلال التوازن في توزيع الأعباء الاقتصادية المترتبة عنها، وهذا وإن كان يجسد أولاً حالة ظلم اجتماعي، فإنه أيضاً يهدر إمكانات الدول، ويخلّ بدورها في القيام بتوفير الرعاية الصحية وتعويض الفئات المتضررة، وفي مقدمتهم العمالة ذات الأوضاع الهشة.

المساهمون