طوابير في الجزائر رغم ارتفاع أسعار النفط والغاز

11 ابريل 2022
نقص في السلع الأساسية بالأسواق (Getty)
+ الخط -

مشاهد مؤلمة لكل عربي تلك التي عايشها الشعب الجزائري خلال الأشهر الماضية، ولا يزال يعايشها حتى الآن جراء نقص السلع الأساسية واضطرار المواطنين للاصطفاف في طوابير طويلة تنتظم منذ الصباح الباكر للحصول علي حصة من الحليب أو زيت الطعام أو الخبز أو حتى الأدوية.

ورغم الإنكار الحكومي لوجود أزمة في توافر هذه السلع وإلقاء اللوم علي بعض الممارسات الاحتكارية من قبل التجار، إلا أن هذا الإنكار لا يمنع الاستنتاج المنطقي من كون ظهور الممارسات الاحتكارية والسوق السوداء هما النتاج الطبيعي لشح وندرة المعروض السلعي، بالإضافة إلى غياب الرقابة الحكومية الكافية ليس فقط لمنع تلك الممارسات، بل أيضا التحكم في تطوراتها التي يقصها بحسرة المواطنون الذين يجبرون على شراء سلع تكاد أن تنتهي فترة صلاحيتها أو منتهية الصلاحية بالفعل، في مقابل حصولهم علي حصة من السلع الرئيسية الشحيحة.

طوابير للحصول على سلع غذائية رغم الإنكار الحكومي لوجود أزمة في توافر هذه السلع وإلقاء اللوم علي بعض الممارسات الاحتكارية من قبل التجار

وامتد الأمر كذلك إلى ما أطلق عليه الجزائريون "البيع المشروط" حيث يجبر المستهلك على شراء كميات يفرضها عليه البائع من سلع راكدة لديه في مقابل الحصول على كمية من السلع الأساسية، وهو الأمر الذي استشرى في ظل الركود الكبير الذي تعيشه السوق كنتيجة لانخفاض القدرات الشرائية للمواطن بعد تداعيات فيروس كورونا والارتفاع العالمي للسلع الغذائية والتي تعتمد الجزائر على استيرادها من الخارج.

طفرة عائدات تصدير الطاقة

وفقا لما اتفق عليه في اجتماع أوبك+ بداية شهر فبراير/شباط الماضي، فإنه تم السماح بزيادة إنتاج الجزائر بمقدار 10 آلاف برميل يوميا بداية من مارس الماضي، ليسجل 992 ألف برميل يوميًا، وبزيادة 10 آلاف طن عن انتاج يناير/كانون الثاني.

والغريب أنه في عام 2021 والذي اندلعت فيه أزمة الطوابير في الجزائر شهد إنتاج عضو أوبك من النفط والغاز، زيادة كبيرة مقارنة بعام الوباء 2020، حيث بلغت 1.315 مليار برميل من النفط المكافئ، بزيادة 5%، وهو ما دعم صادرات البلاد، التي ارتفعت قيمتها نحو 18%.

كما ارتفعت صادرات الغاز بنسبة 14% العام الماضي لتبلغ نحو 45 مليار متر مكعب تقريبا، وكانت صادرات النفط والغاز قد تجاوزت 30 مليار دولار بنهاية العام الماضي في ظل أسعار تراوحت بين 65-75 دولارا لبرميل النفط، وهو الأمر الذي يشير إلى أنه من المنتظر أن تحقق تلك الصادرات طفرة كبيرة في العام الحالي ربما تتجاوز 55 مليار دولار في ظل الارتفاع العالمي الحاد في أسعار النفط والغاز جراء الحرب على أوكرانيا، وتهافت الدول الأوروبية على الغاز الجزائري كبديل ولو بنسب محدودة عن الغاز الروسي.

بالطبع كان من المتوقع مع بداية تدفقات تلك العوائد المتنامية للصادرات أن تختفي ولو تدريجيا المشاهد المؤلمة للطوابير الطويلة في الجزائر، ولكن عمليا تزايدت مشاهد الطوابير، وهو الأمر الذي يؤكد أن لهذه الأزمة العديد من الجوانب الأخرى وليس الجوانب المالية فقط.

إجراءات الحكومة متراخية

يرى المواطن أن الدولة تأخرت كثيرا في المواجهة الحاسمة مع نقص السلع الأساسية، وأنه حان الوقت للتدخل وضبط الأسواق التي أصبحت تخضع لمنطق المضاربة والاحتكار وجشع بعض التجار، وأن المطلوب على وجه السرعة هو مضاعفة عدد دوريات الرقابة في الأسواق، علاوة على حل مشاكل.

قرر مجلس الأمة إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تعهد إليها مسؤولية التحقيق والتقصي في مشاكل الندرة والاحتكار الذي طاول بعض السلع والبضائع

ومع مطلع العام الحالي، أمر وزير التجارة كمال رزيق، مصالح الوزارة بالتجنيد الكامل لمجابهة الاختلالات التي يعرفها السوق في بعض المواد الواسعة الاستهلاك، كما دعا إلى مضاعفة الجهود وتكثيفها خاصة مع الشركاء والمهنيين لمحاربة الممارسات التجارية غير الشرعية، إضافة الى تشديد الرقابة الميدانية لوضع حد للمضاربة واحتكار السلع في ظل توفر المنتجات.

كما قرر مجلس الأمة في منتصف يناير الماضي إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تعهد إليها مسؤولية التحقيق والتقصي في مشاكل الندرة والاحتكار الذي طاول بعض السلع والبضائع من المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع في الجهات الأربع للجمهورية، وفي مختلف الجوانب ذات الصلة.

ورغم هذه التحركات الحكومية تفاقمت الأزمة، مما يؤكد أن رد الفعل الحكومي تجاه الأزمة جاء متراخيا إلى حد كبير، وأن السبب الرئيس لها ليس فقط تعقيدات الاستيراد من الخارج، وإنما الإخفاق في التنويع الإنتاجي والاعتماد على النفط والغاز كمصدر وحيد للدخل.

خطة حكومية للتنويع الإنتاجي

أدى تراجع أسعار المحروقات عالميا جراء فيروس كورونا، والتزام الجزائر لبعض الوقت بتخفيض إنتاجها في إطار توافقات دول أوبك، وضعف القاعدة الإنتاجية وتشوه التركيب الهيكلي للناتج المحلي الإجمالي، إلى عجوزات مزمنة في الموازين الاقتصادية الرئيسية للدولة، فأضحى طبيعيا الحديث عن عجز الموازنة العامة وميزان المدفوعات بمكوناته المختلفة، وعن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وبالتالي كانت أزمة السلع الأساسية نتاجا طبيعيا لتآكل مداخيل النقد الأجنبي ومحاولة السلطة الحفاظ علي ما تبقى من احتياطي أجنبي انخفض  إلى ما دون 50 مليار دولار بنهاية سنة 2020.

تبون يشدد على ضرورة تنفيذ نموذج اقتصاد قوي مبني على "التنويع" ومتحرر من العوائق البيروقراطية، يستقطب الثروة ويمتص البطالة، لاسيما لدى الشباب

وكان الرئيس عبد المجيد تبون قد شدد على ضرورة تنفيذ نموذج اقتصاد قوي مبني على "التنويع" ومتحرر من العوائق البيروقراطية، يستقطب الثروة ويمتص البطالة، لاسيما لدى الشباب، فضلا عن تحقيق الأمن الغذائي بما يضع الجزائريين في منأى عن التبعية للخارج، كما يحررهم من التبعية للمحروقات خاصة عبر تشجيع الطاقات البديلة والمتجددة والعمل على تصديرها وتعزيز التواجد الطاقوي وإعادة إطلاق المشاريع الكبرى لتصدير الطاقة المتجددة، دون إغفال ضرورة وضع خطط استعجالية لتطوير الزراعة، لاسيما الصحراوية، والصناعة الغذائية والصيد البحري، إلى جانب النهوض بقطاع السياحة.

وهي الأمور التي عبر عنها مراقبون بكونها ملامح خطة عمل اقتصادية للدولة الجزائرية، ربما أجلت لبعض الوقت كنتيجة لتداعيات الكوفيد، ولكنها من المفترض أن تدخل قريبا حيز التنفيذ، لا سيما أن في ظل بلوغ الصادرات خارج المحروقات مستوى 4 مليارات دولار في الأشهر العشرة الأولى من السنة الماضية، وهو الرقم الذي يقترب من الوفاء بوعد الرئيس ببلوغ الصادرات غير النفطية نحو 5 مليارات دولار بنهاية العام.

ويرى الكثير من الاقتصاديين أن الجزائر قادرة على رفع صادراتها من السلع غير النفطية إلى 7 مليارات دولار بنهاية العام الحالي، خاصة من المنتجات الفلاحية كالخضر والفواكه، التي لا تتجاوز قيمة صادراتها حاليا380 مليون دولار، غير أنهم أكدوا أن هذا التحدي مرهون بحل بعض المشاكل التي مازالت تعرقل عمليات التصدير وفي مقدمتها المشكلات اللوجستية والتقنية بالإضافة إلى الحاجة إلى إصلاحات تنظيمية وتشريعية، خاصة ما يتعلق بقانون النقد والقروض.

الاستثمار الواجب للفوائض النفطية

تشير عناصر الخطة التي أطلقها الرئيس الجزائري إلى إدراك مكنون المشكلة، بوجوب التخلص من الاعتماد المفرط على النفط والغاز، والذي جعل مداخيل البلاد عرضة للتقلبات الحادة تبعا للظروف العالمية، وتحت رحمة تقلبات الأسعار العالمية، وهو الأمر الذي يجب مواجهته من خلال إطلاق استراتيجية وطنية جادة ومتكاملة للتوجه نحو الإنتاج الحقيقي الزراعي والصناعي.

تمر أسعار النفط بدورات من الانخفاض والارتفاع، ويجب على الجزائر استثمار فرص ارتفاع الأسعار حاليا بتوجيه الفوائض المالية نحو تعويض غياب الاستثمار الأجنبي

تتمتع الجزائر بكل المقومات اللازمة للانطلاق التنموي وفي مقدمتها توافر العنصر البشري، بالإضافة الى المساحة الأرضية الواسعة والمناخ المناسب، والموارد الطبيعية ذات العوائد المالية الكبيرة والتي يجب ألا تهدر في الإنفاق الجاري على الاستيراد والرواتب، بل يجب أن تذهب الحصة الكبرى منها نحو الاستثمار المحلي.

تمر أسعار النفط العالمية بدورات من الانخفاض والارتفاع، ويجب على الجزائر استثمار فرص ارتفاع الأسعار حاليا بتوجيه الفوائض المالية نحو تعويض غياب الاستثمار الأجنبي الذي يحتاج إلى المزيد من الجهود والوقت لاستقدامه، فتكامل عناصر المال المحلي مع الاستراتيجية الوطنية الجادة، والإرادة السياسية الحقيقية مع بعض الشراكات مع الحلفاء، سينقل الجزائر ليس فقط نحو التخلص من أزمة اختفاء السلع الاساسية، بل إلى بناء قواعدها الصناعية المحلية.

المساهمون