شركات الأسلحة تنتعش وسط استمرار الحرب الروسية... والممولون يديرون ظهورهم لـ"أخلاقيات الاستثمار"

01 فبراير 2023
سباق التسلح ينعش أنشطة شركات الأنظمة الدفاعية حول العالم (فرانس برس)
+ الخط -

تشرف الحرب الروسية في أوكرانيا على دخول عامها الثاني، لتتغير معها الكثير من مجريات الإنفاق والاستثمار، ليس فقط على صعيد الحكومات التي أعادت ترتيب أولوياتها، بخاصة في ما يتعلق بميزانيات الدفاع، وإنما أيضاً على صعيد الشركات التي انقسمت بين رابح وخاسر من استمرار هذه الحرب.

فبينما تئن عجلة الكثير من الصناعات من العراقيل التي تسببت فيها الحرب والعقوبات لتدير بعض الشركات مفاتيحها نحو الإغلاق، تعيش شركات الأسلحة أفضل أيامها، بجانب شركات الطاقة التي استفادت كثيراً من الأزمة التي شهدتها أوروبا جراء بحث الدول عن موردين بعيداً عن روسيا.

وبين الرابحين والخاسرين، تبدّلت تحركات آلة التمويل، لتدير ظهرها إلى "أخلاقيات الاستثمار" التي تبنتها في الماضي والمتمثلة في الامتناع عن ضخ الأموال في شركات الأسلحة تحديداً، لتعود من جديد وتستثمر فيها بحثاً عن مكاسب وسط سباق التسلح العالمي والحرب التي قد يطول أمدها في أوكرانيا وربما تتسع رقعتها وفق التصعيد الغربي ضد موسكو.

وقبل نحو عام من غزو روسيا لأوكرانيا فجر 24 فبراير/ شباط 2022، لم يكن سوق صناعة الأسلحة بعيداً عن سجال "الأخلاق" في الاستثمار، بما في ذلك تمنع صناديق تقاعدية في مجموعة دول الشمال (فنلندا والسويد والنرويج وأيسلندا والدنمارك) عن ضخ أموال في هذه الشركات، وكذلك توقف بعض البنوك عن الاستثمار أو فتح حسابات تتعلق بتجارة الأسلحة.

حتى أواخر 2021 كانت المواقف "الأخلاقية" من صناعة الأسلحة تدفع ببنوك سويدية إلى رفض التعامل مع شركة أسلحة في لاتفيا (دولة سوفييتية سابقة وصغيرة من دول البلطيق)، وذلك بناء على تصنيف على مستوى الاتحاد الأوروبي في صيف ذلك العام، اعتبر أن صناعة السلاح والتسلح "ضارة اجتماعياً، وعلى قدم المساواة مع التبغ والمقامرة".

لكن هذه التوجهات باتت اليوم شيئاً من الماضي في ما يبدو، مع تسارع وتيرة الطلب على الأسلحة، ومحاولة دول غربية كثيرة تعويض ما نقص في مستودعاتها، بعد أن دفعت بالكثير من منظوماتها العسكرية نحو أوكرانيا. فقد تغير الحال منذ فبراير/شباط من العام الماضي وانقلب 180 درجة، كما يقول الباحث الاقتصادي جون أولسنبرغ، في كوبنهاغن، لـ"العربي الجديد".

يؤكد أولسنبرغ أن بنكي "سويدبنك" و"سيب"، وهما أكبر مصرفين سويديين ولهما فرعان في لاتفيا، "تراجعا في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا عن رفض التعاون مع الشركات الاستثمارية في مجال التسليح" وهو موقف متخلف مفاجئ عن المواقف المرتبطة بـ"أخلاقيات الاستثمار".

ويضيف أولسنبرغ أن تبرير بنك "سيب" جاء على أساس أنّ "الاستثمار في صناعة الدفاع لها أهمية حاسمة للحفاظ على الديمقراطية والحرية والاستقرار وحقوق الإنسان، والدفاع عنها"، بينما قبل عام واحد فقط من الموقف الجديد، قرر البنك عدم الاستثمار على الإطلاق في الشركات التي يأتي أكثر من 5% من مبيعاتها من الإمدادات العسكرية.

انقلاب المواقف على مستوى أوروبا

موقف أحد أكبر البنوك السويدية مجرد مثال على انقلاب المواقف على مستوى أوروبا والغرب عموماً في مسألة سباق التسلح وضخ المال في أسواقه. فقد تحركت كل الحكومات الأوروبية تقريباً بين عشية وضحاها لتعزيز قدراتها العسكرية، بعدما زحفت القوات الروسية نحو أوكرانيا، والنتيجة كانت ارتفاعاً بنسبة 130% لأسهم شركة المقاولات الدفاعية الألمانية "راينميتال"، لتسجل بذلك أفضل أداء بين الأسهم الأوروبية خلال 2022.

كذلك سجلت أسهم شركات دفاعية أوروبية أخرى، مثل "تاليس" و"داسولت أفييشن"، و"ساب"، مكاسب تراوحت بين 60% و80%. وقد يشهد هذا القطاع المزيد من الانتعاش، إذ لا يزال محللون يتوقعون ارتفاعاً بقيمة 20% لأسهم شركة "راينميتال".

توقع معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام في تقرير له، أن تشهد صناعة الأسلحة ارتفاعاً مستمراً بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أنها ستواجه أزمة في سلسلة التوريد، على اعتبار أن روسيا تُعَدّ من كبار مصدري أجزاء الأسلحة في العالم.

والحال ليس هكذا فقط بالنسبة لشركات الأسلحة وإنما أيضاً الوقود الأحفوري بعد أزمة الطاقة العاصفة التي شهدتها أوروبا. فقد تصدرت شركات الطاقة مكاسب الأسهم في الأسواق الأوروبية خلال عام 2022، وسط توقعات بمواصلتها الصعود خلال العام الجاري، في ظل استمرار تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا التي غيرت الكثير من المجريات في القارة الباردة والأسواق العالمية. وأدت طفرة ما تسمى بقطاعات الاقتصاد القديم، مثل النفط والتعدين إلى جعل أسهم الطاقة الأفضل أداءً على مؤشر "ستوكس 600" للأسهم الأوروبية، بمكاسب وصلت إلى 30%.

البنوك تسير في الركب

ووجدت البنوك، بما فيها السويدية، نفسها تحت ضغوط سياسية ورأي عام متغير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فأوروبا تسارع الخطى لشراء المزيد من الأسلحة من نفس الشركات التي صنفتها صناديق التقاعد وبيوت التمويل على أنها "فاسدة أخلاقياً".

وفي ما يظهر فإن الحرب في أوكرانيا لم تسقط فقط ما كان يسمى "البديهيات الأخلاقية" في الاستثمار في سوق السلاح، بل تقدم ما يشبه الغطاء لجماعات الضغط (اللوبيات) في سوق صناعة السلاح. فقد كتب رئيس لوبي الدفاع الألماني (BDSV) هانز أتزبوديان، في صحيفة "إنفورماسيون" الدنماركية في العام الماضي، أنّه "لا استدامة بيئية أو اجتماعية من دون سلام وأمن"، معتبراً أنّ العالم الحر "تقع عليه مسؤولية مواجهة (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين".

ويتضح أنّه بعد نحو عام من الحرب الأوكرانية يبدو الكاسب الأكبر مما يجري كارتلات السلاح العالمية، بدعم لوبيات منتجي الأسلحة. فرغم أن الحرب شكلت حالة سيئة للاقتصادات، على مستوى فاتورة المعيشة بعد أزمة الطاقة وارتفاع التضخم والأسعار الاستهلاكية، فإنّ "العجلة تسير في مصلحة بائعي البارود والقذائف" كما يسميهم الباحث أولسنبرغ، بينما عجلة الصناعات الأخرى تعاني وتئن وتدير مفاتيح بعض الشركات نحو الإغلاق، تعيش شركات الأسلحة أفضل أيامها.

فالرصاص والقذائف، بالملايين، ومنظومات الصواريخ بالآلاف، عدا عن المعدات الثقيلة، وآخرها الدبابات، تتدفق منذ عام إلى ساحة القتال في أوكرانيا، وهو ما يتوقع أن يستمر في المدى المنظور والمتوسط، وذلك يعني أنّ كرة ثلج سباق التسلح آخذة بالتضخم مع تغير مستمر في كمية ونوعية الأسلحة الثقيلة المقدمة لاستمرار كييف في حربها ضد الجيش الروسي.

وتوقع معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام في تقرير له، أن تشهد صناعة الأسلحة ارتفاعاً مستمراً بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أنها ستواجه أزمة في سلسلة التوريد، على اعتبار أن روسيا تُعَدّ من كبار مصدري أجزاء الأسلحة في العالم.

وتأتي الولايات المتحدة في صدارة الدول المصدرة للأسلحة بحصة 37%، تليها روسيا بنسبة 20%، وفرنسا 8.2%، ألمانيا 5.5%، ثم الصين بنسبة 5.2%. وحققت 40 شركة أميركية مبيعات بقيمة 299 مليار دولار في 2021، من إجمالي مبيعات عالمية بلغت 592 ملياراً.

ازدهار في الإنتاج والتوظيف

عكس شركات ومصانع الإنتاج المدني في العديد من الدول الغربية التي تتجه إلى تقليص أعمالها وفصل مئات آلاف العاملين والموظفين من شتى القطاعات، تشير تقارير اقتصادية إلى أنّ الصناعات العسكرية ليست كذلك، فمنتجو الأسلحة يواجهون صعوبات في مواكبة الطلبات، وبالتالي يتولون عمليات توظيف كبيرة.

وتشير أرقام التوظيف لدى شركة ريثيون للأنظمة الدفاعية إلى زيادة عمالها بنحو 30 ألف موظف جديد خلال عام واحد من الحرب، كما ذهبت شركة لوكهيد مارتن الأميركية نحو فتح مصانع جديدة تماماً.

وتستفيد هذه الشركات من إقدام الحكومات الأوروبية على رفع ميزانياتها الدفاعية، فألمانيا أعلنت ربيع العام الماضي عن تخصيص 100 مليار يورو لتحديث جيشها، ذاهبة نحو تأهيل مجتمعها لتقبل فكرة أنّ المبلغ ليس كافياً، كما أعلنت وزارة الدفاع في برلين قبل أيام قليلة.

المفارقة في سوق الأسلحة أنّ شركات وصناديق تقاعدية كبيرة، كما في النرويج والدنمارك، جمدت سابقاً وسحبت استثماراتها في شركات السلاح، مثل راينميتال الألمانية ولوكهيد مارتن الأميركية، كما فعل صندوق التقاعد الدنماركي "بلس بي"، على خلفية أن تلك الشركات تستمر في "تزويد السعودية والإمارات بالأسلحة التي يمكن أن تستخدم في الحرب الأهلية في اليمن".

وهي اليوم تقف في موقف صعب مع عودة استثماراتها إلى تلك الشركات، بعد رؤية تحقيق أسواق إنتاج السلاح أرباحاً طائلة، بل يبدو تبرير المسؤولة في صندوق "فولككيركن" (صندوق الكنيسة الشعبية) التقاعدي في الدنمارك، كاثرين ليلور، كمن يشجع على الاستثمار في سوق السلاح، حين صرحت للصحافة المحلية أواخر 2022 بأنه "إذا كنت تريد السلام، يجب أن تجرؤ أيضاً على الحرب".

ومع تواصل الحرب في أوكرانيا، ووصول العلاقة بين الغرب وروسيا إلى حضيض سباق تسلح فترة الحرب الباردة (1949-1992)، وغياب الثقة واليقين في المستقبل، تبدو الصناعات العسكرية (المسماة سياسيا على مستوى أوروبا بالصناعات الدفاعية) فرصة سانحة لتخلصها والشركات الاستثمارية مما أطلقت عليه لوبياتها الضاغطة لاستمرار الاستثمار في السوق العسكري "الأخلاقيات المضللة للقطاع المالي"، والتي صعبت برأيهم "جمع رأس المال لإنتاج المزيد من السلاح".

وصار اليوم يُنظر في أوروبا إلى المستثمرين المتشككين في سوق صناعة السلاح باعتبارهم "يمثلون خطراً أمنيا، ويعارضون طموحات السياسة الدفاعية الجديدة لدول الاتحاد الأوروبي"، كما ذهبت شركة "تاليس" الفرنسية العسكرية، في انتقادها "تقويض القدرة الدفاعية والسيادة في أوروبا".

تأتي الولايات المتحدة في صدارة الدول المصدرة للأسلحة بحصة 37%، تليها روسيا بنسبة 20%، وفرنسا 8.2%، ألمانيا 5.5%، ثم الصين بنسبة 5.2%. وحققت 40 شركة أميركية مبيعات بقيمة 299 مليار دولار في 2021، من إجمالي مبيعات عالمية بلغت 592 ملياراً.

ويشعر قطاع الصناعات التسليحية في أوروبا وبريطانيا والولايات المتحدة بحالة أشبه بـ"عودة الروح" إلى أنشطتها، وخصوصا أن المفوضية الأوروبية قدمت منذ ربيع العام 2022 ما يشبه "ضمانة" بأن تبقى "المبادرات بالتمويل المستدام متوافقة مع جهود الاتحاد الأوروبي لتسهيل الوصول الكافي لصناعة الدفاع (التسليح)الأوروبية إلى رأس المال والاستثمار".

ويساهم المستثمرون في توسيع عجلات الإنتاج في عدد من الشركات الغربية، وعلى رأسها الأميركية لوكهيد مارتن والبريطانية "بي ايه إي سيستمز" المتهمة من منظمات حقوقية في تسليح بعض الأنظمة بأسلحة وأنظمة فتاكة، بالإضافة إلى شركتي "نورثروب غرومان" و"بوينغ".

ووفق الباحث الاقتصادي جون أولسنبرغ، فإن عاماً من الحرب "غيّر النظرة السابقة، التي لم تكن تقبل تصنيف شركات الأسلحة على أنها مستدامة، بل مدمرة"، مضيفاً أنّه "بات يُنظر اليوم أكثر فأكثر إلى الصناعة التسليحية باعتبارها ضرورة لاستعادة السلام، بينما يستمر التخبط في سوق الاستثمار بين الصواب والخطأ".

المساهمون