شرائح المستهلكين تزيد قلق الشركات الأميركية من استمرار المقاطعة... "المقاومة الشرائية" تتسع
- المقاطعة أثرت بشكل ملحوظ على مبيعات هذه السلاسل، مما أدى إلى خيبة أمل الرئيس التنفيذي لماكدونالدز وتراجع الإيرادات، وامتد التأثير لشركات أخرى مثل نستله وكوكا كولا، مع توقعات باستمرار المقاطعة طالما استمرت الحرب.
- الشركات المتأثرة تحاول مواجهة التحديات بتأكيد مواقفها المعارضة للحرب ودعمها للقضية الفلسطينية، لكنها تواجه صعوبات بسبب استمرار الحرب وتزايد الوعي بأهمية المقاطعة كأداة للضغط السياسي والاقتصادي.
ظلت شرائح الشباب من المستهلكين الذين انخرطوا في مقاطعة منتجات سلاسل المطاعم والمقاهي الأميركية الشهيرة الأكثر تأثيراً في أعمال هذه الشركات بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المستمرة منذ نحو سبعة أشهر، وهو ما يقلق هذه الشركات التي تخشى امتداد الأضرار لفترات أطول وسط ترسخ المقاطعة لدى الكثيرين، ليس فقط في الدول العربية والإسلامية التي يشكل الشباب معظم سكانها، وإنما أيضا في المجتمعات العربية في دول المهجر بالغرب.
وباتت المقاطعة تنتقل من فئات الشباب إلى من دونهم عمراً، لتجد أطفالاً يحدثونك بفخر عن المقاطعة باعتبارها نوعاً من مقاومة الاحتلال. الطفلة المغربية ريحانة التي كانت تتجول برفقة والدها في أحد المراكز التجارية الكبرى في العاصمة القطرية الدوحة تؤكد أن تناول وجبة سريعة من سلسلة مطاعم ماكدونالدز "يساوي الوقوف مع جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد إخوتنا الفلسطينيين".
ريحانة، التي ولدت خارج المغرب، لم تبدأ بعد رحلتها المدرسية، هي واحدة من الكثير من الأطفال الذين ينتقدون مشهد أن يرتاد شخص ما، حتى لو كان قريباً لها، مقهى ستاربكس أو مطعم ماكدونالدز. وهي قد لا تدرك بلغة الحسابات مستوى تأثير ألا تشتري شيئا من سلسلة متاجر كارفور أو غيرها، حيث تصر على البدائل الموجودة، لكنها تتحدث بلغة الكبار عن مرامي تلك المقاطعة التي بدأت منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومثل الطفلة ريحانة التي تعيش في وسط عربي ويكسو الحماس وجهها وهي تتحدث عن فلسطين، فإن مئات آلاف ممن يعيشون في دول المهجر الأوروبية باتوا منذ نحو 7 أشهر بعيدين عن وجبات الأطفال التي تقدمها سلسلة مطاعم ماكدونالدز، متفاخرين وهم يسيرون بجانبها أثناء تظاهرات التضامن مع غزة في مدن أوروبية أنهم "مقاطعون لها لأنها تدعم إسرائيل"، كما يقول نوح ابن السنوات الثماني وتؤكد إليانا ابنة السنوات الست في مدينة آرهوس وسط الدنمارك في حديث مع "العربي الجديد".
المقاطعة التي تحولت مع الأيام الأولى للحرب العدوانية على غزة باتت تعكس نفسها في تقارير سلاسل المطاعم والمقاهي الأميركية التي أشاح كثيرون بوجوههم عن منتجاتها. ففي تقريرها ربع السنوي لمارس/آذار الماضي، عبر الرئيس التنفيذي لشركة الوجبات السريعة الأميركية العملاقة ماكونالد كريس كيمبكزينسكي عن خيبة آماله حين تراجعت مداخيل الشركة العملاقة. ووفقا له، فإن مستهلكين كثر باتوا يمتنعون عن شراء البرغر والناغتس والبطاطس (البطاطا) المقلية، لأنهم غاضبون من قيام سلسلة المطاعم الإسرائيلية بتوزيع آلاف الوجبات المجانية على جنود الاحتلال في الأسابيع الأولى بعد بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
توقعات استمرار المقاطعة أمر أقر به كيمبكزينسكي، برغم أنه في تصريحات، نقلتها عنه رويترز قبل أيام، عاد ليؤكد أن ماكدونالدز لا تتبنى مواقف داعمة لجيش الاحتلال، وألقى باللوم على ملاك فروعها من زملائهم الإسرائيليين. وشدد الرجل في منشور على موقع التواصل لينكدن (LinkedIn) على أنه "طالما استمرت الحرب، فلا نتوقع تقدماً كبيراً"، على مستوى تراجع المقاطعة.
عمليا، فإن ما قدمته أشهر الحرب هو استمرار المقاطعة الشعبية، بالتزامن مع تراجع نمو مبيعات ماكدونالدز في منطقة الشرق الأوسط والهند والصين في الربع الأول من العام الحالي بنحو النصف، أي من 8.8% في الربع السابق إلى نحو 4% عن الربع الأول للعام الحالي 2024. بل إن بعض المتضامنين الأجانب الذين كانوا يرتادون ستاربكس وماكدونالدز في السابق أصبحوا أيضا يقاطعونهما، تماماً مثل ما يقاطعون كل شيء "صنع في إسرائيل".
ويؤكد الناشط الدنماركي مورتن أبيلغورد أن "المقاطعة ليست جديدة في سياق الاحتجاج على سياسات بعينها، وهو أمر مشروع جرت ممارسته حتى بحق ماكدونالدز على مسائل أقل من الحرب الهمجية على غزة". كما تعرض العديد من مقاهي ستاربكس لوقفات احتجاجية أمامها، مثل ما هوجم العديد من مطاعم ماكدونالدز بالجرذان والفئران الحية، من بين أماكن أخرى في الدنمارك.
محاولات لاستعادة المستهلكين
ومنذ أن خرجت المقاطعة إلى العلن قبل أكثر من مائتي يوم، يبدو أن منحنى نمو المبيعات للشركات والسلاسل التي تُقاطع في تراجع، وباعتراف القائمين عليها، حيث يسارعون لتأكيد مواقف معارضة لما اتخذ منهم مع السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في محاولة لاستعادة المستهلكين الذين أداروا ظهورهم لهم، بل واصلوا الاحتجاج عليهم بشتى الوسائل.
ماكدونالدز على سبيل المثال عانت سابقا من فقدان السوق الروسية الكبيرة بعد أن ذهبت موسكو إلى ما يشبه تأميم سلسلة مطاعمها الروسية، إثر ضغوط هائلة من أجل أن تنسحب سلسلة المطاعم من أسواق روسيا بعد غزو الأخيرة أوكرانيا. أما أن تأتي حملات المقاطعة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، بعد تراجعها في روسيا والصين والهند، فتلك ليست بضربة سهلة للسلسلة، ذلك أن أسواق الشرق الأوسط، أو المنطقة العربية، ليست أسواقاً بلا قيمة لناحية المداخيل لدى ماكدونالدز وستاربكس. الأخيرة بدأت تستشعر ثقل الحرب على غزة في وقت مبكر، حيث في يناير/كانون الثاني الماضي أعلنت سلسلة مقاهي ستاربكس أنها تتوقع نمواً أقل، هذا برغم قيام نقابة مستقلة لموظفي الشركة بالتعبير عن دعمها الفلسطينيين.
الشركتان الأميركيتان حاولتا طيلة الأشهر الماضية تخفيف آثار الحرب على غزة على تسويقهما في المنطقة العربية وفي بعض دول الغرب التي تُقاطع فيها من مئات آلاف الأسر من أصول عربية ومسلمة مهاجرة. وأكدت السلسلتان في بيانات صحافية مراراً أن "المقاطعة المتعلقة بالحرب تتسم بالمعلومات الخاطئة وسوء الفهم"، ومع ذلك، تواصلت حملات المقاطعة وكأنها أمر اعتيادي في سياق التعبير عن مواقف واضحة من الحرب.
وتعتبر أستاذة إدارة الأزمات الدولية في جامعة آرهوس وسط غرب الدنمارك فيني يوهانسن أنه "بات من الصعب للغاية على الشركات الدولية أن تتجنب مثل هذه المضايقات السياسية"، بحسب تصريحات نقلتها صحف دنماركية في الشهر الماضي. ومسألة تعرض الشركات الكبيرة لانتقادات ليس بالأمر الجديد، فقد شهد العديد منها انتقادات واحتجاجات بسبب استمرارها في السوق الروسية، مثل "إيكو" للأحذية التي لم تغلق في روسيا، وهي تتعرض حتى اليوم لمضايقات واحتجاجات شعبية.
وبالنسبة ليوهانسن، فإن الشركات الكبيرة "تصعب عليها مواجهة الانتقادات، لأنه بغض النظر عما تقوله ماكدونالدز حول هذا الموضوع، سيعتقد شخص ما أنه يتصرف بشكل خاطئ. إذا نأوا بأنفسهم عن المطاعم الإسرائيلية، فإنهم يقولون أيضًا إنهم لا يدعمون إسرائيل". ومع أن ماكدونالدز انسحبت من السوق الروسية، مثل العديد من الشركات الأخرى، إلا أن الحرب على غزة لم تدفعها إلى ذات الموقف.
ومع أن بعض المتحدثين باسم الشركات الكبيرة التي تُقاطَع يراهنون على عامل الزمن لتخبو تلك المقاطعة، إلا أن الواقع يشير إلى توسع نطاق تلك المقاطعة مع تكشف المزيد من جرائم الحرب المرتكبة في غزة. فعلى سبيل المثال، باتت المقاطعة الواسعة لستاربكس تحمل عواقب وخيمة لشركة القهوة العملاقة. فالسلسلة اضطرت إلى طرد أكثر من ألفي موظف. وأعلنت مؤخراً مجموعة الشايع، صاحبة امتياز ستاربكس في الشرق الأوسط، عن اضطرارها لبدء جولة جديدة من عمليات تسريح العمال، وفقا لما نقلت رويترز أخيراً عن مصادر في المجموعة. يأتي ذلك في أعقاب الانخفاض الكبير في مبيعات الشركة العملاقة في الشرق الأوسط، ويعود ذلك في المقام الأول لحملة المقاطعة واسعة النطاق والمعبرة عن تأييد غزة والفلسطينيين في مواجهة العدوان المتواصل على غزة.
ومثل ماكدونالدز إسرائيل التي ذهبت بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى توزيع وجبات مجانية على جنود الاحتلال، فإن ستاربكس وقعت في فخ الدعم المالي لجيش الاحتلال، هذا برغم النفي، ولم تستجب الشركة لمطالب إظهار التضامن مع الضحايا في غزة، حيث أدى ذلك إلى مقاطعة كبيرة لستاربكس حول العالم، وليس فقط في الشرق الأوسط. انتشار الأخبار بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عن قيام سلسلتي ماكدونالدز وستاربكس بإبداء تعاطف ودعم لجنود الاحتلال، وعدم التراجع رسميا عن تلك الأخبار المتعلقة بامتيازات لجنود الاحتلال برغم أهوال الحرب في غزة، تزامن أيضا مع تصاعد الدعوات لمقاطعة نستله الفرنسية وكوكا كولا وغيرهما من العلامات التجارية.
قلق من استمرار المقاطعة
ومنذ ذلك الحين، تضرب المقاطعة بحق العديد من شركات الأغذية والمشروبات العالمية نسب النمو في بعضها. وتعترف ماكدونالدز على سبيل المثال بتأثير ما تسميه "الصراع الحالي بين إسرائيل وغزة" على مبيعات السلسلة في بعض أنحاء العالم. ونقلت وسائل إعلام، بينها مجلة فوربس الأميركية، عن الرئيس التنفيذي للشركة كريس كيمبزينسكي قوله :"طالما أن هذه الحرب مستمرة، فإننا لا نتوقع أن نرى أي تقدم كبير"، في إشارة إلى الأسواق في الشرق الأوسط وغيرها حيث تتراجع المبيعات. ووفقا لفوربس، فإن حوالي 10% من مطاعم ماكدونالدز هي منتشرة في الشرق الأوسط، وهذا يتوافق مع ما يصل إلى نحو 18 ألف مطعم.
الخسائر التي تُمنى بها الشركات التي تستشعر المقاطعة، وتحاول الالتفاف عليها تارة بتغيير اسم المنتج أو شكله، وسط تصد للناشطين وداعمي استمرار المقاطعة، ليست فقط على مستوى المداخيل والمبيعات. فبعض أهم الخسائر هي تلك المرتبطة بتراجع سمعة ومكانة تلك الشركات على مستوى ثقة المستهلكين بها، حيث ينعكس ذلك أيضا، وفقا لتقرير نشرته فوربس في بداية فبراير/شباط الماضي، في تراجع أسهم بعضها، مثل ستاربكس التي عانت من تراجع في الإيرادات المتوقعة.
وأصرت ستاربكس على أن التراجع "مرتبط بالتصورات الخاطئة لموقفنا بشأن الصراع (الحرب على غزة)"، وهو اعتراف ضمني بتأثير المقاطعة، وتراجع الطلب عليها في أسواق رئيسية. ويخلق ذلك ما تسميه سلسلة المقاهي العالمية "تحديات في مستوى التوقعات للربع الثاني"، معترفة بصعوبة الوضع المالي. انخفاض الإيرادات عموما فيه تذكير للشركات التي تُقاطَع بأن مواقفها التي تكررت في ازدواجية الموقف من الفلسطينيين والاحتلال والذهاب سريعاً نحو إبداء تعاطف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وعدم الاكتراث بالضحايا الفلسطينيين باتت تكلف الشركات في منطقة لا تنسى مواقفها بسهولة.