يستظل الحاج سعيد الإبراهيم بجدار قرب "بسطته" في سوق الأربعاء بمدينة إدلب، مستغلاً فترات الاستراحة بالاختباء من أشعة شمس تموز الحارقة.
يستغل ابتعاد الزبائن عن البسطات، يجفف عرقه ويستريح لبرهة قبل أن يعود للإشراف عليها وإطلاق الصيحات الترويجية لجذب زبائنه، ممسكاً بمظلة تحجب عنه بعضاً من شمس الظهيرة.
يقول الإبراهيم لـ"العربي الجديد" إن البازارات الشعبية مصدر عيشه الوحيد، وهو مجبر على التعايش مع الظروف الجوية كافة للاستمرار بالعمل وضمان تحصيل قوت أولاده اليومي، فحالته المادية لا تسمح باستئجار محل خاص لممارسة تجارته، وتغيبه عن العمل في أيام الحر سيحرم عائلته المستلزمات الأساسية التي تؤمنها هذه المهنة البسيطة.
الإبراهيم واحد من آلاف السوريين المضطرين إلى العمل في الظروف الجوية كافة، معرّضين حياتهم للخطر في سبيل الاستمرار بعملهم وتأمين قوت أولادهم، ولا سيما في هذه الأيام، حيث تجتاح سورية موجة مرتفعات جوية متلاحقة قاربت فيها درجات الحرارة في عدة مناطق 40 درجة مئوية.
لم تكن حال محمد الحاج إبراهيم أفضل من سابقه، فرغم كونه موظفاً في إحدى الدوائر الرسمية بمدينة إدلب، إلا أن عمله خلال موجة الحر أدى إلى نقله للمستشفى بعد تردي حالته الصحية.
يقول الحاج إبراهيم لـ"العربي الجديد" إن طبيعة عمله تفرض عليه التنقل بشكل متكرر ضمن الأسواق لتلبية احتياجات المؤسسة التي يعمل فيها، "وعملي في موجة الحر أدى إلى إصابتي "بضربة شمس" نقلت على إثرها إلى المستشفى بعد معاناة يوم كامل مع الصداع وارتفاع درجات الحرارة، واضطررت إلى أخذ إجازة صحية ليوم واحد، ثم عدت إلى عملي، رغم استمرار نوبات الصداع التي كانت تصيبني، فطبيعة عملي لا تسمح بالغياب لفترات طويلة".
يضيف: "قد أكون أوفر حظاً من كثير من العمال في شمال سورية، ولا سيما العاملين في مجال البناء والأعمال الزراعية، حيث تعمل تلك الفئة لساعات طويلة تحت أشعة الشمس، إضافة إلى الجهد الكبير الذي يبذله العمال في تلك الأعمال الشاقة، التي قد تعرضهم لمخاطر مماثلة دون أن يكون لديهم أدنى فرصة للاستراحة أو الغياب في حال المرض، فالانقطاع عن العمل يعني تعطل مصدر الرزق، وصاحب العمل لا يقدم أي تعويضات مالية دون عمل كامل".
من خلال حديثنا مع مدير إحدى الدوائر الحكومية في شمال غرب سورية، أخبرنا عن حجم المعاناة التي يعيشها العاملون في مؤسسته في هذه الظروف، وقال إنه أخبر العمال الميدانيين بالتوقف عن العمل في هذه الفترة، إلا في حالات الضرورة القصوى.
عمل مضاعف
في مناطق سيطرة النظام السوري لم يكن العمال أوفر حظاً، فبدل استغلال موجات الحر بالاستجمام ورحلات البحر، كانوا مضطرين إلى تنفيذ أعمال إضافية تعينهم على تحمل أعباء الحياة.
يقول حسن العبدالله، وهو موظف في شركة الكهرباء لـ"العربي الجديد" إن ساعات عملهم في مثل هذه الظروف قد تتضاعف، وهم مجبرون في كثير من الأحيان على العمل تحت أشعة الشمس حيث تكثر أعطال شبكات الكهرباء في الأجواء الحارة، الأمر الذي يجعلهم في استنفار دائم، وفي الوقت ذاته لا توجد تعويضات عمل أو ساعات إضافية تستحق هذا العناء الذي يُبذل.
ويضيف العبدالله: ترافقت موجة الحر مع انهيار جديد لليرة السورية، وهو ما أجبرني على الاستمرار بعملي الإضافي ضمن شركة خاصة بتجهيزات آبار المياه، الأمر الذي أصابني بإرهاق حقيقي خلال الأسبوع الماضي، ويجبرني على الاستراحة خلال الأيام القادمة والاستمرار بعمل واحد فقط لأحافظ على صحتي قدر المستطاع.
تعمل أم محمد وبناتها في مزرعة للخضار منذ ساعات الصباح الأولى حتى الظهر وسط أجواء شديدة الحرارة لم تحصل في منطقة حوران جنوبيّ سورية منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، بحسب السيدة التي تحمي رأسها بقبعة كبيرة، لكن ذلك لا يمنع حرارة الشمس اللاهبة على جسمها، حيث تمضي الساعات الطوال بهذه الظروف القاهرة.
وتروي السيدة السورية لـ"العربي الجديد" أنها وبناتها مجبرات على العمل كل يوم لتحصيل قوت يومهن، ولا بدائل أمامهن غير ذلك، حيث يحاولن الإسراع في الأعمال صباحاً قبل أن تأكل رؤوسهن الحرارة التي لم يعهدوها من قبل. وتضيف أن الماء الموجود في المزرعة ساخن، فهو غير مجدٍ حتى للشرب، ومع ذلك يتابعن العمل لأن الحرارة تؤثر مباشرةً في المحاصيل، ويجب جنيها وتجهيزها للبيع قبل أن تتلف.
واقع خدمي متردٍّ
ترافقت موجات الطقس الحار التي تجتاح بعض الدول العربية، ومنها سورية، مع أزمات خدمية واقتصادية يعاني منها المواطن السوري عموماً وفي مناطق سيطرة النظام خصوصاً، لتشكل هذه الموجات إلى جانب مشكلات الكهرباء والماء والفقر، أزمة متفاقمة قد تدفع إلى كارثة صحية وبيئية إذا استمرت على هذه الوتيرة.
وقد سجلت درجات الحرارة معدلات مرتفعة وغير مسبوقة في جميع المحافظات السورية بزيادة تراوح بين 4 و6 درجات عن المعدل السنوي، لتزيد من احتياجات المواطن للكهرباء والمياه. ويقابلها ازدياد ملحوظ في عدد ساعات تقنين الكهرباء حيث راوحت بين 4 إلى 7 ساعات قطع مقابل ساعة وصل في معظم المناطق السورية، وإلى نقص كبير يصل إلى حد العطش في مياه الشرب وفي إنتاج مياه الآبار الجوفية التي تعتمد في معظمها على التيار الكهربائي.
هذا الواقع الخدمي المتردي كانت له انعكاساته الأسوأ على العمال والمزارعين والحرفيين في ظل موجة الطقس الحار، وفي بلد لم يشرع قوانين واضحة تحمي المواطن من الكوارث الطبيعية كالزلازل والحرائق والفيضانات وغيرها. وترك للمؤسسة السورية للتأمين تقدير نسب العجز والإصابة من أجل العلاج والتعويض المادي في حال الإصابة.
أحد موظفي الجباية وقراءة العدادات في مؤسسة كهرباء دمشق يقول لـ"العربي الجديد": "لا شيء يحميني من إصابات العمل قبل وقوعها، بما فيها الإصابات التي قد تسببها موجات الحر، فلا وقاية صحية أو ألبسة واقية أو مركبات نقل ولا تغير بساعات العمل بما يتناسب مع الأحوال الجوية، وبالتالي أمرنا متروك لما بعد الإصابة، أي إلى العلاج في المشافي العامة حصراً والتعويض المادي، وهذا بحسب شدة الإصابة، وفي أحسن الحالات يساوي الراتب التقاعدي، وهذا حال جميع موظفي الدولة وعمالها في جميع القطاعات".
ويذكر الموظف أن أحد عمال النظافة في محافظة دمشق أصيب باختلاج حراري في أثناء العمل كاد أن يودي بحياته، فأُسعف إلى مشفى المجتهد العام وتلقى الإسعافات الأولية، ثم حصل على إجازة لعشرة أيام يقضيها في المنزل.
يستقطب القطاع الخاص السوري معظم العمالة السورية ويزدهر بعيداً عن التشريعات والقوانين الناظمة للعمل المؤسسي، مُستغلاً الظرف الاقتصادي والسياسي والأمني وحالة العوز والفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ويستحوذ على عمال البناء والحرف والزراعة ضمن شروط عمل سيئة تفرضها قوانين الحاجة ورب العمل بعيداً عن قواعد العمل الصحي ومعاييره وفي غياب أي دور مسؤول وفاعل للنقابات ومؤسسات الرقابة والتأمين.
وبالتالي يجد معظم العاملين أنفسهم عرضة لشروط صاحب العمل في مواجهة أية أخطار طبيعية في بلد يدعي القانون فيه أنه "لا يحمي المغفلين"، في الوقت الذي تدفع فيه كل الظروف المحيطة العاملات والعمال إلى التخلي عن أدنى الحقوق، وعلى رأسها التأمين الصحي والحماية من الأخطار الطبيعية مقابل العمل.
تقول العاملة "س. الحج" لـ"العربي الجديد": "أسير من منزلي إلى ورشة العمل في منطقة البرامكة وسط دمشق مسافة تزيد على 2 كيلومتر يومياً صباحاً وظهراً وتحت أشعة الشمس صيفاً والمطر شتاءً دون أي وقاية من المخاطر الطبيعية أو حوادث السير، ودون أي مراعاة من إدارة المشغل للظروف الجوية، وغالباً ما أتت خدمات الإدارة على شكل توصيات، مثل "لا تسيروا تحت أشعة الشمس الحارقة، واحملوا مظلات وعبوات من الماء في الطريق، وتلظوا بفيء الأبنية" دون الاكتراث بازدحام السير وتدافع الركاب على الحافلات وأجور النقل أو مراعاة لأسباب التأخر عن موعد العمل أحياناً، في الوقت الذي يفتقر فيه مكان العمل إلى أدنى شروط العمل الصحية كالتكييف صيفاً وشتاءً باستثناء مكاتب الإدارة.
"أما عن التأمين على حياة العاملات وضد مخاطر الإصابة، فمعظمنا غير مؤمن عليه بأي جهة رسمية أو خاصة، وغالباً ما نعمل دون عقود عمل ونخضع لشروط صاحب العمل ولعطفه وحسناته في حالات الإصابة والمرض"، حسب العاملة. هذا الظرف غير الصحي تعاني منه معظم العاملات والعمال في سورية، ويزداد قسوة لدى عمال البناء.
حرارة الخليج وأجواء سورية
في مناطق شمال شرق سورية يبدو الأمر أصعب من سابقَيه، إذ تجاوزت درجات الحرارة عتبة 46 درجة مئوية، وما فاقم المشكلة، الانقطاعات المتكررة بشبكات الكهرباء، الأمر الذي يجبر الأهالي على اللجوء إلى أساليب بدائية.
يقول خالد زينو وهو عامل في أحد حقول النفط لـ"العربي الجديد" إن ارتفاع درجات الحرارة يشكل خطراً على طبيعة عملهم نتيجة التخوف من نشوب حرائق، ولا سيما مع غياب وسائل الأمان والحماية المطلوبة والعمل بمقومات بدائية.
ويضيف زينو: أعمل لمدة تتجاوز عشر ساعات يومياً، ولا تنتهي معاناتي من الحر مع عودتي إلى المنزل، فقد تترافق عودتي مع انقطاع التيار الكهربائي، ما يعني أنني لن أتمكن من تبريد حرارة جسدي عبر المكيف الصحراوي الذي يعتبر الحل الأمثل في هذه الظروف، فأضطر إلى الاستحمام بمياه لا يكاد جسدي يتحمل حرارتها.
حالة حسام الرجب لم تكن أفضل، فعمله على الجرّار الزراعي تحت أشعة الشمس عرّضه لمخاطر وأمراض، ما دفعه إلى تغيير ساعات عمله.
تقول العاملة "س. الحج" لـ"العربي الجديد": "أسير من منزلي إلى ورشة العمل في منطقة البرامكة وسط دمشق مسافة تزيد على 2 كيلومتر يومياً صباحاً وظهراً وتحت أشعة الشمس صيفاً
ويقول حسام لـ"العربي الجديد" إنه يعمل بحراثة الحقول التي كانت مزروعة بالقمح، وعمله خلال ساعات النهار أدى إلى إصابته بضربة شمس، وتأثر جراره الذي يعمل عليه نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، الأمر الذي دفعه إلى تغيير ساعات عمله للوقت المسائي، حيث بات يبدأ بالعمل بعد الخامسة عصراً ويستمر بالعمل لساعات متأخرة من الليل بهدف الهرب من أشعة الشمس، متجاهلاً الخطورة التي قد يتعرض لها ليلاً نتيجة ضعف الواقع الأمني في البلاد.
من خلال الاطلاع على أنظمة العمل وقوانينه في سورية، تبين أنه لا توجد أي قوانين حماية للعمال في مثل هذه الظروف، إضافة إلى غياب أي نوع من التعويضات التي قد يحتاجها العامل في حال تدهور حالته الصحية نتيجة اضطراره إلى العمل في هذه الأجواء، الأمر الذي يجبر الجميع على الاستمرار بأعمالهم متجاهلين المخاطر المحتملة.