سرقوا الصندوق يا محمد!

06 يناير 2022
تعويم الجنيه،رفع أسعار السلع والخدمات في مصر (getty)
+ الخط -

لا أدري لماذا تصيبني حساسية مفرطة، كلما ذكرت كلمة "صناديق المال" في مصر. فالتاريخ يذكرنا بأن أول صندوق للمال نشأ بعد دخول الاحتلال البريطاني البلاد عام 1882، وبدأ في عرض الأملاك العامة للبيع أمام المغامرين والشركات الأجنبية التي استطاعت أن تخطف ميراث نهضة البلد في عمليات بيع بالبخس من أجل تحصيل ديون اقترضها الخديوي إسماعيل لحفر قناة السويس، وإقامة حفلات استقبال الملوك وكبار رجال الأعمال الذين شاركوا في النهب العام.

أصبح مدير الصندوق اللورد كرومر مندوب الاحتلال، بمثابة الحاكم الفعلي للبلاد، فهو الوحيد الذي يمنح الحاكم والوزارات المخصصات السنوية، بما حرم البلاد من استكمال نهضتها الصناعية والتعليمية، لأن الهدف الأول عنده "سداد ديون مصر".

في العصر الحديث كثرت المخاوف، بعدما رأيت بعيني حجم الفساد الذي ساد في إدارة الصندوق الاجتماعي للتنمية، الذي أنشأته وزارة عاطف صدقي في ثمانينيات القرن الماضي، بعد اتفاقه مع صندوقي النقد والبنك الدوليين، على تنفيذ أول برنامج للإصلاح الاقتصادي، يهدف إلى بدء تعويم الجنيه، ورفع أسعار السلع والخدمات وتقليص عدد العاملين بالدولة.

التزمت الجهات الدولية بتقديم دعم مالي سنوي للحكومة لتمويل فرص عمل بديلة للمصريين، بعد أن وقف تعيين الخريجين عن طريق القوى العاملة.

تفتق ذهن الحكومة عن صرف الأموال التي تخطت المليار دولار ويزيد سنويا، عن إنشاء "الصندوق الاجتماعي للتنمية" لتمويل مشروعات شباب الخريجين، على الطريقة الأميركية.

الهدف كان نبيلا، حيث تسمح تلك القوانين لكل فرد لديه خبرة أو فكرة ودراسة جدوى لها، بأن يتقدم للحصول على دعم مالي، مقابل أن تشاركه الجهة الممولة في استيفاء الدراسات وإنهاء إجراءات الإنشاء والتنفيذ، وتقاسم الأرباح.

فإذا ما خسر الشاب أموال المشروع، تقوم الجهة الممولة بتصفيته، مكتفية بخسارة رأس المال، بينما لا توجد أية عقوبات على المواطن نفسه، باعتباره قد خسر وقته وجهده.
تحول "الصندوق الاجتماعي" في مصر إلى "وسية" كبيرة، تربح منها علية القوم، حيث أصبح لكل وزير حصة من التعيينات بداخله، بل وحصة لنجل الرئيس الأسبق ورئيس برلمان، ورؤساء تحرير صحف حكومية وكبار مسؤولين في الجهات الرقابية.

لم يخضع الصندوق لرقابة شعبية، من البرلمان أو غيره، لذلك أصبح مرتعا للفساد المالي والإداري، فالموظف يحصل على راتب وفقا لقيمة الواسطة التي وراءه

لم يخضع الصندوق لرقابة شعبية، من البرلمان أو غيره، لذلك أصبح مرتعا للفساد المالي والإداري، فالموظف يحصل على راتب وفقا لقيمة الواسطة التي وراءه، والأموال توزع على "المحاسيب"، بينما شباب الخريجين يحصلون على الفتات من المبالغ التي تصرف لتوزيعها عن طريق البنوك العامة بفوائد باهظة، ويفرض عليهم شراء مدخلات الإنتاج من جهات معينة تابعة لأحد المستفيدين في الصندوق بما أوقع خسائر فادحة في المشروعات، وهدد عشرات الآلاف من الشباب بالحبس في السجون، لعدم قدرتهم على الالتزام بالشروط المجحفة التي وضعها الصندوق.
شاءت الأقدار أن أكون أول من ساهم في وضع معاول الهدم لشبكة الفساد، عام 2001، عندما نشرت عن فساد زكم الأنوف وانتقلت معاركه إلى البرلمان والصحف، بل والتلفزيون الرسمي، استمرت نحو عام كامل.

كلف الصندوق أستاذا جامعيا، مازال له باع طويل في إدارة الحملات الإعلامية للمؤسسات المالية حتى الآن، بعمل حملة "تضليل إعلامي" كلفتهم عشرات الملايين، وسعى لمنعي من الكتابة في جريدتي، ونشر أية معلومات عن هذا الفساد، إلا أن مؤسسات التمويل المالية الدولية، بدأت التحقيق بنفسها وتأكدت من الإسراف وإهدار هذه الأموال، الذي تخطى كل الحدود.
ساهم الصحافي الكبير الراحل حمدي قنديل في برنامجه التلفزيوني "قلم رصاص" في نشر المستندات، التي بينت فيها هذه الحقائق، وتلقفها الكاتب الراحل محمود السعدني في مقال مشهور بمجلة "المصور" بعنوان "سرقوا الصندوق يا محمد"، وهي أغنيه قديمة رددها المصريون في هجاء "صندوق الدين"، فكانت قوة هذه الأعمال وراء حصولي على جائزة "أحمد بهاء الدين" من نقابة الصحافيين عام 2002، ثم تبعتها الرقابة المشددة على أموال الصندوق ثم تفكيكه إلى ما يعرف بـ "صندوق دعم المشروعات الصغيرة".
سخونة الموضوع، دفعت بالكثير من النواب إلى مناقشة ظاهرة "الصناديق الخاصة" التي أنشأتها الوزارات والأجهزة المحلية، لتحقق من خلالها دخلا بعيدا عن الموارد العامة للدولة.

اتضح من المناقشات التي استمرت سنوات، عدم قدرة الحكومة على معرفة عدد الصناديق وأساليب الصرف، والمستفيدين منها، لأن شبكتها تنحصر في كبار المسؤولين ونواب وضباط ومستشارين

اتضح من المناقشات التي استمرت سنوات، عدم قدرة الحكومة على معرفة عدد هذه الصناديق وأساليب الصرف، والمستفيدين منها، لأن شبكتها تنحصر في كبار المسؤولين عن تلك الجهات، مع نواب وضباط ومستشارين، ومسؤولين في أجهزة رقابية، يحصلون على مكافآت، تتخطى ملايين الجنيهات رسميا.
وفشلت مطالبات ثوار 25 يناير في تعقب هذه الصناديق، إلى أن اتفقت الحكومة مؤخرا مع المسؤولين عنها على أن تحصل وزارة المالية على نسبة تتراوح ما بين 10% و15% من مداخيلها سنويا، لتمويل العجز في الموازنة العامة.
شرّعت الحكومة الفساد الإداري بقانون اخترعته، وقد قبلت السكوت، بعد أن هددت بعض الوزارات والمحافظات بعدم قدرتها عل تمويل تعيين المدرسين أو موظفي الخدمات العامة، وتحسين النظافة والطرق إلا عبر هذه الصناديق.
أخيرا طلعت علينا الحكومة بما يسمي "صندوق مصر السيادي" الذي تأسس بالقرار الجمهوري رقم 117 لسنة 2018، لإعادة التشغيل والاستفادة من ملكية الأصول غير المستغلة بالدولة التي تشمل الأراضي ومباني الوزارات والمنشآت التي يمكن أن يديرها أو يطرحها للقطاع الخاص لتطويرها وترميمها وتحويلها إلى فنادق وبنوك ومتاحف.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

عنوان واسع وعريض لأعمال صندوق بالكاد وفروا له 62 مليون دولار لتأسيسه، وهناك آمال رسمية، بأن تزيد إلى المليارات دون تحديد لسقفها، خلال 3 سنوات، بينما صناديق الاستثمار الحكومية في العالم تدير نحو 32 تريليون دولار.
لم يفعل الصندوق شيئا يذكر منذ إنشائه إلا توقيعه عدة بروتوكولات مع وزارات وولادة 4 صناديق أخرى صغيرة، أحدها للاستثمار العقاري والثاني للسياحة والثالث للآثار والرابع للخدمات الصحية والدوائية.
الإنجاز الوحيد الذي روجت له الحكومة حدث في سبتمبر/أيلول 2019، مع استحواذ الصندوق على 25% من حصة بنك الاستثمار القومي في رأسمال بنك الاستثمار العربي، وإقامة شراكة مع مجموعة "هيرمس المالية"، التي تحولت إلى بنك بعد استحواذها على نسبة 51٪ من بنك الاستثمار العربي، بينما ظلت الدولة مالكة لنسبة 24٪ من بنك الاستثمار. 
جاءت الحسنة الوحيدة على يد المدير التنفيذي محمد سليمان، الذي كان يعمل للمصادفة البحتة، في مجموعة "هيرمس" بإدارة التخطيط لعدة سنوات، وتعتبر مصدر خبرته الرئيسية لتولي هذه المنصب الخطير.

من المدهش أن الحكومة أسندت لمدير الصندوق، بعد أن حولت اسمه إلى " صندوق مصر السيادي" بيع ملكية أو حق إدارة وتشغيل 3 محطات توليد كهرباء اقامتها شركة " سيمنس" الألمانية في العاصمة الجديدة وبني سويف ودمياط، و10 شركات مملوكة للقوات المسلحة الأسبوع الماضي.

وكان المدير قد صرح لوكالة" رويترز" في 10 ديسمبر 2019 أنه تلقى عرضا لبيع المحطات الثلاث، وسيقرر مصير العروض خلال أيام.  وعلى امتداد هذه الفترة حاولت الحكومة بيعها لشركة "بتروناس" الماليزية وشركات هندية وماليزية أخرى.

وفشلت تلك المفاوضات المتعجلة للرغبة في سداد أقساط ديونها لألمانيا، بعد أن رأي المستثمرون أن قيمة المحطات مرتفعة، حيث تقدر بنحو 6.6 مليار دولار، مع تناقص عمرها الافتراضي والجدوى الفنية.

مشكلة الصندوق الذي سيدير مال مصر المعطل أو الذي سيتم تعطيله، أنه لا سلطان للشعب عليه من خلال البرلمان، بل من جهاز المحاسبات، الذي أصبح تابعا لمؤسسة الرئاسة التي تجور على دور البرلمان كما أبعدت من قبل سلطة الصحافة والشعب عن رقابة المال العام. 

المساهمون