تبدو روسيا عازمة على تطويق أوكرانيا اقتصادياً عبر خنق إمدادات الطاقة من الغاز إلى الفحم، حيث تختمر حرب طاقة يمتد لهيبها إلى مختلف البلدان الأوروبية، التي تخشى من شتاء قارس في ظل التصعيد الروسي المتزامن مع ارتفاع الطلب على الغاز وارتفاع أسعاره إلى مستويات تاريخية.
وتحدث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعد اجتماع مع نظيره الأوكراني في واشنطن في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عن "محاولة موسكو استخدام الطاقة سلاحاً"، حيث يواجه قطاع الطاقة في أوكرانيا العديد من التحديات الرئيسية ونقاط الضعف.
وتستخدم روسيا الطاقة بشكل متكرر أداةً جيوسياسيةً في أوكرانيا، سواء كإجراء عقابي في شكل قطع الغاز الطبيعي، مثل ما حدث في عامي 2006 و2009 في ظل حكومة فيكتور يوشينكو الأوكرانية الموالية للغرب، أو مكافأةً على الولاء السياسي، عندما خفضت أسعار الغاز الطبيعي لإدارة فيكتور يانوكوفيتش الموالية لروسيا في عام 2010.
تراجعت كميات الغاز الروسي العابرة نحو أوروبا إلى 55.8 مليار متر مكعب في 2020، مقابل 89.6 مليار متر مكعب في 2019، وسط توقعات بهوبطها إلى 40 مليار متر مكعب سنويا في الفترة من 2021 إلى 2024
وأصبح التهديد الروسي لأوكرانيا أكثر وضوحاً منذ عام 2014 ، عندما أطاحت ما تعرف بـ"ثورة الميدان الأوروبي" يانوكوفيتش وأعادت اتجاه كييف نحو الغرب، لترد روسيا بضم شبه جزيرة القرم ودعم الصراع الانفصالي الموالي لروسيا في شرق أوكرانيا، وتقويض قطاع الطاقة الأوكراني مرة أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية.
وفي حين ظلت أوكرانيا طريق عبور رئيسياً لصادرات الغاز الطبيعي الروسي عبر الأنابيب إلى أوروبا، سعت موسكو لتقويض هذا الدور من خلال إنشاء مشاريع خطوط أنابيب دولية للتحايل على أوكرانيا وحرمان كييف من عائدات عبور كبيرة، وعلى الأخص خط أنابيب "نورد ستريم 2" إلى ألمانيا وخط أنابيب "ترك ستريم" إلى تركيا.
وفي عام 2020، أفاد مشغل نظام نقل الغاز في أوكرانيا أن أحجام العبور الروسية عبر أوكرانيا بلغت 55.8 مليار متر مكعب، بانخفاض عن 89.6 مليار متر مكعب في عام 2019. وبالنسبة للفترة من 2021 إلى 2024، من المتوقع أن ينخفض نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى 40 مليار متر مكعب سنوياً.
وقد ترك هذا السياق الجيوسياسي قطاع الطاقة الأوكراني ضعيفاً للغاية. ومع أن كييف سعت إلى زيادة إنتاجها المحلي من الطاقة وتنويع مصادر وارداتها من الغاز الطبيعي بعيداً عن روسيا، إلا أن كلا المجهودين يواجهان تحديات خطيرة.
ولا يزال قطاع الطاقة الأوكراني يعاني من الفساد وعدم الكفاءة، وهو ما أعاق كذلك آمال كييف الأوسع في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إذ أدت العقبات البيروقراطية والروتين القانوني إلى تقويض أداء صناعة الطاقة في البلاد، وهو ما اتضح من إلغاء 20% من الاستثمارات في قطاع الطاقة الأوكراني من قبل شركة Nordic Environment Finance Corp خلال السنوات الثلاث الماضية.
وفي حين زادت أوكرانيا من وارداتها في شكل تدفق عكسي افتراضي للغاز الطبيعي من بولندا والمجر وسلوفاكيا، فإن واردات الغاز الطبيعي هذه، في نهاية المطاف، لا يزال مصدرها روسيا، وعليه، فهي ليست مستدامة من حيث التنويع على المدى الطويل.
رغم تعدد السيناريوهات التي يمكن لأوكرانيا اللجوء إليها لتوفير إمدادات الغاز، فإن السياسة الروسية تبدو عازمة على حرم كييف من إمدادات الفحم أيضا
ولكن تمكن لأوكرانيا زيادة إنتاج الطاقة من مصادر مثل الرياح والطاقة الشمسية، ويمكن للتقنيات الناشئة، مثل الهيدروجين الأخضر، أن تتحول إلى نموذج أكثر فاعلية، وفق فورين بوليسي، التي أشارت إلى أنه يجب على أوكرانيا أيضا أن تنوع مدخلاتها من الطاقة، مع التركيز ليس فقط على الغرب تجاه الاتحاد الأوروبي كقوة موازنة لروسيا، بل عبر نقاط رئيسية أخرى في وسط أوراسيا، حيث لا تكفي واردات التدفق العكسي لأوكرانيا من دول الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر وسلوفاكيا، لتلبية احتياجاتها من الطاقة.
أحد اللاعبين المهمين بشكل خاص في هذا الصدد هو تركيا، وهي دولة كبيرة ومؤثرة في حد ذاتها، ولا يمكنها تقديم الدعم الجيوسياسي لكييف فحسب، بل يمكنها أيضًا الاستفادة من موقعها الاستراتيجي العابر للقارات ليكون بمثابة حلقة وصل لأوكرانيا في موارد الطاقة في الدولة. وتركيا يمكن أن تصبح معبر إمدادات النفط والغاز الطبيعي القادم من أذربيجان إلى أوكرانيا من خلال شبكات الأنابيب القائمة عبر البلقان.
ورغم أهمية الغاز الطبيعي المسال ولعبه دوراً مهماً للغاية بالنسبة لأوكرانيا، فإن بناء محطة لاستقباله أمر غير مرجح، وفق المجلة الأميركية، نظراً للتوترات الجيوسياسية مع روسيا في البحر الأسود، لافتة إلى أن محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال في تركيا واليونان وبولندا وكرواتيا يمكن أن تساعد أوكرانيا على تنويع مصادرها ومنحها إمكانية الوصول إلى المزودين بالطاقة خارج جوارها المباشر، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيوفر الشركاء المتنوعون أيضاً وسيلة لأوكرانيا للبحث عن خيارات تتجاوز الوقوع بين روسيا والغرب.
ورغم تعدد السيناريوهات التي يمكن لأوكرانيا اللجوء إليها لتوفير إمدادات الغاز، فإن السياسة الروسية تبدو منصبة على خنق أوكرانيا في أكثر من اتجاه.
والأسبوع الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يقضي بفتح روسيا أسواقها والسماح للمنشآت الواقعة في منطقة دونباس، شرقي أوكرانيا، الموالية لموسكو، بالمشاركة في مشتريات الدولة الروسية.
وتشير بيانات، أوردتها وكالة الأناضول اليوم الحد، إلى أن دونباس تضم احتياطيات من الفحم تقدر بحوالي 60 مليار طن، وكانت تنتج ما يقارب 75% من إجمالي الفحم المنتج في أوكرانيا، وذلك قبل إعلان الانفصاليين الموالين لروسيا استقلالهم عام 2014. كما كانت منتجات دونباس قبل عام 2014 تستحوذ على 30% من إجمالي صادرات أوكرانيا.
روسيا تستخدم الطاقة بشكل متكرر كأداة جيوسياسية في أوكرانيا، سواء كإجراء عقابي في شكل قطع الغاز، مثل ما حدث في عامي 2006 و2009 في ظل حكومة فيكتور يوشينكو الأوكرانية الموالية للغرب، أو كمكافأة على الولاء السياسي، عندما خفضت أسعار الغاز لإدارة فيكتور يانوكوفيتش الموالية لروسيا في 2010
وفي هذا الإطار، اعتبر الصحافي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف، في تصريحات لـ"العربي الجديد" نهاية الأسبوع الماضي، أن التسهيلات التجارية لمصنعي دونباس في السوق الروسية تشكل خطوة جديدة على مسار "الضم الروسي الزاحف" لأراضي هذه المنطقة ودمجها اقتصادياً وسياسياً في روسيا.
ومن بين الخطوات السابقة التي اتخذتها موسكو وأثارت استياء كييف، اعتراف روسيا بالعديد من الوثائق الصادرة عن "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" المعلنتين من طرف واحد استقلالهما عن أوكرانيا في عام 2017، وتسهيل إجراءات الحصول على الجنسية الروسية لسكان دونباس في عام 2019 وتصويتهم في الانتخابات الروسية، ووصولاً اليوم إلى معاملة المنشآت المحلية نفس معاملة مثيلاتها الروسية في العديد من الحقوق.
ويبدو أن التصعيد الروسي يستهدف مناطق أبعد من أوكرانيا، ليطاول الدول الأوروبية ويضع أيضاً الولايات المتحدة، الرامية إلى إفساح المزيد من المجال لصادرات غازها نحو القارة العجوز، في مأزق.
وتواجه أوروبا أزمة غاز مستفحلة تهدد دول القارة بشتاء قارس وعتمة، كما تهدد المواطنين بزيادات قياسية في فواتير الكهرباء وتضخم مرتفع في الأسعار، خاصة الوقود، وسط تباطؤ الإمدادات الروسية وارتفاع الأسعار إلى أعلى مستوياتها في أشهر، ما أثار مخاوف بشأن التضخم على نطاق أوسع.
وتتزامن الأزمة التي لم تشهدها دول القارة من قبل مع توجيه روسيا شحنات الغاز نحو الشرق، وتحديدا إلى الصين والهند ودول جنوب شرق أسيا، بالإضافة إلى قرار السلطات الألمانية تعليق منح رخصة تشغيل خط أنابيب "نورستريم 2" الروسي المثير للجدل، ما رفع مستويات القلق من نقص الإمدادات مع حلول فصل الشتاء.