أحيت الحكومة الجزائرية مجدداً مجال التنقيب عن الذهب في المناطق الجنوبية أمام الشباب، بعد سنوات من التردد في تقنين هذا النشاط الذي ظل مُجرما لعقود، حيث قررت منح تراخيص استثنائية للمنقبين بهدف امتصاص جزء من البطالة المنتشرة بكثرة في الجنوب الغني بحقول النفط من جهة وبالتالي تجنب الاحتجاجات، وكذلك استغلال الثروات الدفينة لتعويض تراجع عائدات النفط.
وظل التنقيب عن الذهب في الجنوب الجزائري بشكل خاص، من القضايا الشائكة، وذلك لاحتكار شبكات منظمة للتنقيب في المناطق الخالية، فيما تبقى المناطق الكبرى تحت سيطرة الدولة التي حولت المناطق المتواجد فيها الذهب بكثرة إلى مناطق عسكرية ممنوعة عن العامة من المواطنين، وذلك لحماية المعدن النفيس الذي تقوم شركة حكومية واحدة بالتنقيب عنه رسمياً وهي "اينور" تحت رقابة الجيش.
ويقوم الجيش بشكل دوري باعتقال مجموعات من الشباب والمنقبين عن الذهب في مناطق الجنوب وعمق الصحراء، باستخدام تجهيزات تكنولوجية متطورة، في مقدمتها آلة الكشف عن المعادن والمطرقات الضاغطة والحفارات الصغيرة الموصولة بمولد كهربائي، الذي يستعمل أيضا للإضاءة كون أن العملية تتم ليلاً.
لكن الشغف المتزايد في الآونة الأخيرة من قبل الشباب، الذين يراودهم حلم الثراء في البلد الذي تعصف به أزمة اقتصادية، دفع الحكومة إلى الجنوح لإدخال بعض هؤلاء في المعادلة عبر منح تراخيص رسمية مطلع فبراير/ شباط المقبل، وفق تأكيدات رسمية.
فقد كشف عبد الهادي الحاج جيلالي، مدير الاستغلال والإنتاج في وزارة المناجم الجزائرية لـ"العربي الجديد" أن التراخيص الأولى للتنقيب عن الذهب ستسلم مطلع فبراير/شباط القادم بغرض الاستغلال الحر وتخص محافظة تمنراست (جنوب)، أما التراخيص الثانية التي ستطرح في فترة لاحقة فستكون للاستغلال الصناعي، وذلك للقضاء على الاستغلال غير القانوني والتهريب، خاصة وأن نشاط التنقيب عن الذهب دون تراخيص يظل نشاطا غير قانوني".
وتحتل الجزائر المركز الثالث عربياً والـ 25 عالمياً في احتياطي الذهب، وفق تصنيف المجلس العالمي للذهب الصادر في عام 2017، حيث يقدر احتياطي الدولة بنحو 173 طناً بعد كل من السعودية ولبنان.
وأضاف جيلالي: "الحكومة قررت تنظيم نشاط استخراج الذهب من خلال استمالة المنقبين غير الشرعيين للعمل في إطار القانون، ما يسمح بخلق فرص عمل واستغلال أمثل للثروات الباطنية النفيسة".
وأشار إلى وضع دفتر أعباء (كراسة شروط) خلال العام الماضي، ينظم النشاط كما هو معمول به في الولايات المتحدة وأستراليا والعديد من الدول الأفريقية بشكل خاص، حيث يلزم المنقبين في التكتل داخل "تعاونيات"، بالإضافة إلى إلزامهم ببيع ما يتم استخراجه لشركة "اينور" الحكومية حصرياً، مع ضمان هامش ربح مغر للمنقبين.
ولفت مدير الاستغلال والإنتاج في وزارة المناجم إلى أنه تم تحديد مناطق التنقيب في نحو 180 موقعاً باحتياطي 110 أطنان من الذهب الصافي، ستقسم على أكثر من 90 تعاونية أو شركة مصغرة وفق شروط حددها دفتر الأعباء. وتحول البحث والتنقيب عن الذهب في أقصى الجنوب الجزائري إلى هوس بالنسبة لآلاف المغامرين من أبناء المنطقة والقادمين من ولايات الشمال، بحثا عن الثراء السريع ومواجهة الفقر الذي ارتفعت معدلاته في البلاد خلال الفترة الأخيرة.
وبعد اتصالات متعددة مع أعيان محافظة تمنراست الحدودية مع النيجر، وبعد موافقتهم، استطاعت "العربي الجديد" الوصول لبعض الشباب الناشط في مجال التنقيب عن الذهب، الذين سردوا تجربتهم في المجال وكيف يرون المساعي الحكومية الرامية لتنظيم نشاطهم.
وقال الشاب تيغري.ع (اسم مستعار) إن "غالبية الشباب في المنطقة يعملون في مجال التنقيب عن الذهب كونه سريع الربح، ففي العادة يصل ما يتم بيعه في العملية الواحدة إلى ما بين ألف و1500 يورو، مع احتساب مصاريف التنقل والوقود والعتاد، لكن الأمر ليس باليسير فهناك مراهنة قد تنتهي بالموت في حال عدم وجود ذهب ونفاد المياه، وأحيانا يكون الجيش في المقابل".
لكنه أضاف: "في الكثير من الأحيان ننجح في جمع كميات نبيعها إما لأشخاص في النيجر يُعيدون بيعها للشركات الفرنسية أو نبيعها لوسطاء داخل شركات النفط الناشطة هنا في الجزائر يحولونها للأجانب العاملين معهم، المهم أن تتم العملية في سرية مع تسليم واستلام فوري للذهب والمال"، مشيرا إلى أن عملية التنقيب تستغرق بين يوم إلى يومين وأحيانا 3 أيام، إذا كانت المساحة كبيرة ومجهولة.
ورغم المساعي الحكومية للسيطرة على التنقيب عبر تراخيص رسمية للراغبين في استخراج المعدن النفيس، إلا أن هناك من يشكك بجدوى التحرك الحكومي على اعتبار أن هذا التقنين سيساهم في تراجع العوائد الصافية للمنقبين، فضلا عن أن من سيحصلون على تراخيص التنقيب سيكونون من رجال الأعمال وأعيان وليس شباب الجنوب.
وقال "علي.ج" شاب منقب عن الذهب في تمنراست "ما قالته الحكومة حول مناجم الذهب يبقى كلاما على الورق، إلى اليوم لم نسمع بشروط العمل في مجال التنقيب ولا أين يتم وضع الملفات، بل سمعنا مؤخرا أن التراخيص سيتم منحها لرجال أعمال وأعيان نافذين في المنطقة، الذين استبقوا الأحداث وفتحوا تعاونيات دون علم شباب المنطقة الذين انقسموا بين حالمٍ بمستقبل أفضل سيصطدم بالحقيقة قريبا، وبين كافر بكل ما تعرضه الحكومة للمنطقة لأنه سياسي أكثر منه لمصلحة الشباب في الجنوب الجزائري".
وأضاف الشاب لـ"العربي الجديد" أنه "تعود على العمل مع شباب آخرين يبيعون الذهب المستخرج بأسعار السوق، لماذا تفرض الحكومة علينا بيع الذهب لها بالأسعار التي تريدها، إذا كان الجهد والتعب نفسهما والمخاطر نفسها لماذا أبيع الذهب بأسعار منخفضة، أفضل إذن العمل خارج القانون".
وتابع: "لعقود ونحن مهمشون في الجنوب والحكومة عودتنا على وعودها الكاذبة، واليوم بعد أن عجزت عن استغلال الذهب تريد أن نساعدها بعد نفاد أموال النفط".
وتحتكر شركة "اينور" الحكومية استخراج وإنتاج الذهب، وكانت تدير منجم "أمسمسة" و"بتيراك" في تمنراست بالتعاون شركة أسترالية، قبل أن تغادر الشركة البلاد عام 2012 بعد نفاد الكميات المستخرجة من السطح وفق مصادر مطلعة.
وكانت الحكومة الجزائرية قد قدرت عام 2018 ديون "اينور" بنحو 50 مليون يورو، ومنحتها قرضا استثماريا بقيمة 70 مليون يورو لإنعاش نشاطها.
وتظهر موازنة الجزائر للعام الجاري عجزاً تاريخيا يفوق 22 مليار دولار، بما يعادل 13.57% من إجمالي الناتج المحلي، بينما ظل يتراوح منذ أزمة تهاوي أسعار النفط في 2014، بين 13 و17 مليار دولار، حيث تتوقع الحكومة إيرادات بنحو 43.31 مليار دولار في 2021، ونفقات بقيمة 65.95 مليار دولار.
ولا تقتصر الضغوط المالية على تسجيل عجز في الموازنة التي صادق عليها البرلمان نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وإنما تتوقع الحكومة تراجع احتياطي النقد الأجنبي إلى أقل من 46.8 مليار دولار، من 56 ملياراً بنهاية 2020، تغطي 16.2 شهراً من الواردات.
وجاءت جائحة فيروس كورونا الجديد لتزيد الصعوبات الاقتصادية، لتهدد قوت ملايين الجزائريين، حيث قالت وزارة العمل والتشغيل الجزائرية في تقرير حديث إنه جرى إحصاء 200 ألف عامل من دون مداخيل مالية في الفترة الممتدة من مارس/آذار إلى نهاية أغسطس/ آب الماضي، و50 ألفاً فقدوا عملهم نهائياً، و180 ألف عامل شهدت رواتبهم تأخراً بين شهرين وثلاثة أشهر، وهي أرقام تؤكد مصادر حكومية تضاعفها مرتين عند نهاية 2020.
وفي ظل هذه الظروف أضحى العمل غير الرسمي، لا سيما في مجال التقيب عن الذهب، أكثر إغراءً للكثيرين، لا سيما في المناطق الجنوبية التي يقول قاطنوها إنهم يدفعون ثمن عقود من التهميش الحكومي. وبين الرؤية الحكومية وشكوك منقبين في الوعود الرسمية، رأى برلمانيون وخبراء أن المساعي الحكومية أقرب للفشل لعدم توفر عامل مهم، وهو "الثقة"، بين شباب الجنوب وبين الإدارة المركزية في الشمال الجزائري.
فحسب النائب البرلماني وأحد أعيان تمنراست عبد القادر جباري فإن "الحكومة لم تراعِ الخصوصية والاستثناء الجزائري في نقلها لتجارب دول أخرى في مجال تنظيم نشاط التنقيب عن الذهب، فمقارنة بالسودان لا يوجد خوف لانفلات الوضع بسبب تواجد الجيش بكثرة، والذي حفف من تزيف الذهب نحو دول الجوار كالنيجر ومالي، لكن الإشكال يكمن في طبيعة تركيبة شبكات التنقيب عن الذهب التي أخذت أبعاداً خارج الجزائر تضم نيجريين وسودانيين وحتى أوروبيين، يصعب إقناع شاب بسيط بترك العمل غير القانوني المربح مع الأجانب والتوجه لعمل قانوني أقل ربحا وبنفس الجهد، هذا لا يعقل".
وقال جباري لـ"العربي الجديد" :"نطالب الحكومة بمراجعة القانون المنظم للعملية، خاصة ما يتعلق بالتسعير حتى تكون الاستجابة واسعة من الشباب الذي يجد في المقابل أسعاراً مغرية بالسوق السوداء".
وتستهدف الخطط الحكومية إنتاج 240 كيلوغراما من المعدن الأصفر خلال العام الجاري 2021 و500 كيلوغرام في 2023.
ورأى الخبير الاقتصادي جمال نور الدين أن "الحكومة وقعت في عدة أخطاء أولها عدم التسويق لخطتها جيداً، فلا يمكن أن تكون التصريحات الرسمية في العاصمة أي على بعد 1800 كيلومتر من عين المكان، يجب أن تتنقل الحكومة ومؤسساتها إلى الجنوب لتتواصل مباشرة مع الشباب لاستمالتهم للانخراط في مساعيها، فالحكومة اليوم تدفع ثمن عقود من الوعود الواهية التي لم تف بها نحو سكان وشباب الجنوب المهمش باعتراف الحكومة نفسها، وبالتالي أول خطوة هي إعادة بناء الثقة بين الطرفين".
أما الخطوة الثانية، حسب نور الدين فهي "مراجعة دفتر الأعباء، بما يضمن عدم تدخل أصحاب المال والنفوذ لاحتكار تراخيص الاستغلال، وأيضا بمراجعة الأسعار التي يجب أن تكون مغرية للشباب".
لكن وزير المناجم محمد عرقاب، قال في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الجزائرية في وقت سابق من يناير/كانون الثاني الجاري، إن الخطة الحكومية للسماح للشباب بالتنقب عن الذهب مجدية اقتصاديا بالنسبة لهم، خاصة في ظل المؤشرات المتعلقة بحجم الاستخراج المتوقع وضوابط العمل في هذا المجال، مشيرا إلى أنه سيتم توسيع حقول التنقيب من ولايتي تمنراست واليزي، إلى ولايتي تندوف وأدرار جنوبي البلاد.