كثيرون لا يفهمون تفاصيل تعقيدات المشهد السياسي في فنزويلا، وسبب حالة الانقسام الشديد في البلاد، في ظل وجود رئيسين كلاهما معترف به دولياً، أو سرّ إصرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إطاحة الرئيس اليساري نيكولاس مادورو وتنصيب زعيم المعارضة خوان غوايدو رئيساً للبلاد، وهل صحيح أن الولايات المتحدة تريد الإطاحة بمادورو لوضع يدها على الاحتياطي النفطي الضخم بالبلاد، كما يقول أنصار النظام الحالي.
كما لا يفهم كثيرون سرّ الحرب الاقتصادية الشرسة، التي تشنّها أميركا ضد نظام مادورو الذي انتخب لفترة جديدة مدتها 6 سنوات في مايو/ أيار الماضي ومحاولة إطاحته، يدعم هذه الحرب دول أخرى منها كندا ودول أوروبية ومجموعة من دول أميركا اللاتينية.
لكن بعيداً عن تعقيدات المشهد السياسي في فنزويلا ومحاولة فهم خلفيات ما يحدث، فإننا أمام مشهد اقتصادي ومالي ومعيشي معقّد يجب التوقف عنده كثيراً، لا فقط لأنه شديد البؤس للمواطن والاقتصاد والدولة بالكامل، ولكن بسبب النتائج الكارثية المترتبة على حكم الفرد، ووجود نظم استبدادية قمعية لا تزال تحكم في القرن الحادي والعشرين.
مشهد يكشف أيضاً عن إساءة استخدام الأنظمة الحاكمة للموارد المالية للبلاد، والدخول بها في مشروعات عديمة الجدوى الاقتصادية ولا تمثل قيمة مضافة للاقتصاد، ولا تنعكس على حياة المواطن.
المشهد يقول إن فنزويلا دولة تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم يقدر بنحو 303.2 مليارات برميل، وتمتلك 17.9% من احتياطي النفط المؤكد في العالم وبذلك تسبق السعودية، وتصنف على أنها من كبرى الدول المصدرة للنفط عالمياً، ولذا فهي دولة مهمة في سوق النفط العالمي.
كما تمتلك ثروات كبيرة أخرى، منها الشواطئ الساحلية وكميات كبيرة من الفحم والحديد والذهب، إضافة إلى جمال طبيعي متنوع، بدءاً من قمم جبال الأنديز المغطاة بالثلوج في الغرب، وغابات الأمازون في الجنوب، وشواطئ الكاريبي في الشمال.
ومع ذلك باتت فنزويلا تضم أكبر عدد من الفقراء في دول أميركا اللاتينية، كما شهدت انهياراً اقتصادياً خلال السنوات الأخيرة، بسبب الفساد والاستيلاء على المال العام وتهاوي إيراداتها من النفط وخاصة من عام 2014.
ودفع انهيار فنزويلا اقتصادياً في عهد الرئيس الحالي مادورو وانزلاقها إلى الفقر، نحو ثلاثة ملايين شخص للفرار إلى الخارج، وخاصة إلى الدول المجاورة وفي مقدمتها كولومبيا.
كما نرى أن عملة فنزويلا البوليفار يعاد تقييمها كل ساعة، بسبب الانهيارات التي شهدتها في السنوات الأخيرة رغم إلغاء خمسة أصفار، وكيف دفعت سياسات مادورو الاقتصادية والتضخم الجامح للأسعار والنقص الحادّ في السلع الغذائية، ملايين الفنزويليين إلى الدخول في أتون الفقر المدقع والبطالة والانتحار.
ولنا أن نتوقف أمام توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة المفزعة، التي يتوقع فيها تفاقم أزمة ارتفاع معدل التضخم في البلاد خلال العام الجاري، لتصل إلى 10 ملايين في المئة في 2019 مقابل 1.37 مليون في المئة في 2018، ومقابل 1087% في 2017، نعم أرقام التضخم بالمليون في المائة.
إذاً، دولة نفطية كبرى على وشك الانهيار الاقتصادي، وخاصة مع الانهيار الكبير في صادراتها النفطية بسبب العقوبات الأميركية الأخيرة المفروضة على نظام مادورو، وتجميد أرصدتها في الخارج.
وهذا الانهيار الاقتصادي أمر متوقع في ظل وجود نظم سياسية فاشلة، تعاقبت على حكم كراكاس وتتاجر بالمواطن وتطلق شعارات، ولا تستفيد من الموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة لدولها، وبدلاً من أن توجه موارد الدولة لتوفير فرص عمل وخدمات وتعليم أفضل، ونظم صحّية وبنية تحتية لمواطنيها وأسعار مناسبة في الأسعار، تغرق البلاد في مشروعات أقرب ما تكون منشأة لأغراض سياسية دون أن يكون لها دليل على الأرض، والنتيجة إهدار أموال المجتمع، وحدوث مزيد من الفقر والجوع والبطالة وتضخم الأسعار.
ليكن ما يحدث في فنزويلا ناقوس خطر لأنظمتنا العربية، ودرساً مفيداً للحكام الذين أساؤوا استخدام موارد الدولة، وفشلوا في إحداث تنمية حقيقية رغم طول مدة بقائهم في السلطة. ولذا كانت النتيجة حدوث انهيارات اقتصادية ومالية، دفعت هؤلاء إلى التوسع في فرض الضرائب واللجوء إلى جيب المواطن، والاقتراض المحلي والخارجي لتمويل إيرادات الدولة وعلاج عجز الموازنة العامّة، وذلك بدلاً من تنشيط الأنشطة الاقتصادية وخاصة الإنتاجية والصناعية والاستفادة من الطاقات البشرية.
على هؤلاء الحكام رفع المستوى المعيشي للمواطن، ومعالجة الأزمات المالية والمعيشية، حتى لا يحدث انفجار قد يفوق في حدّته ما جرى في فنزويلا.