تركيا أوروبية الهوى، هذه هي الحقيقية التي لم ولن تغيّرها الاتفاقات مع المنطقة العربية، ولا حتى التوسع نحو القارة السمراء، ولا حجم التجارة مع روسيا والصين. ولبلوغ هذا الحلم، سعت تركيا، منذ نصف قرن، للعضوية الكاملة ولم تزل، بكل ما أوتيت من تغيير الديمقراطية وحقوق الإنسان ومأسسة الاقتصاد الحر، لكن أسوار بروكسل ترتفع، والأعذار تنبش، والمطالب تتزايد.
فمنذ عام 1963، يوم وقعت تركيا والاتحاد الأوروبي اتفاقية أنقرة، لم تنته، عملياً، المراحل الثلاث "التحضيرية والانتقالية والنهائية" رغم ما قيل عام 1996 عن انتهاء المرحلة الثانية وحان دور تطبيق المادة 28 من الاتفاق، لنيل تركية عضوية الاتحاد. وما أشيع من آمال بقمة هلسنكي عام 1999 عن تحقيق تركيا المعايير الأساسية وما تلاه عام 2005 من بدء مفاوضات الانضمام.
ومن تابع جولات التفاوض، يلحظ أن العلة ربما، ليست بالأبواب الواسعة التي فتحها الاتحاد "تنقل الأموال، قوانين الشركات والملكية الفكرية والضرائب"، أو ما أدرج تحت لافتة الحمايات "من مستهلكين وحقوق الإنسان والأديان"، بل وسحبت تركيا عصا قبرص الجنوبية من عجلات الانضمام، وقت وقعت على البروتوكول الإضافي في تموز من عام 2005.
بيد أن الاتحاد الأوروبي اعتبر عدم التزام تركيا بالبروتوكول الإضافي لما يتعلق بقبرص سبباً لعودة أبواب التفاوض للتجميد والمفاوضات للمراوحة، خاصة بعد بيان قبرص الجنوبية الشهير عام 2009 بعرقلة فتح أبواب التفاوض حول "التنقل والعمال والقضاء وحقوق الإنسان والعدالة والحرية والأمن، إضافة إلى التعليم والثقافة والأمن والدفاع".
بيد أنه، ورغم محاولة أنقرة ترك الأبواب العالقة مواربة، إلا أن المفاوضات توقفت عام 2016، بعد أن اتهم الاتحاد الأوروبي تركيا بانتهاك حقوق الإنسان خلال تعاملها مع الانقلابيين، لتتالى تصريحات التمنّع في عام 2017: "تركيا تنتهك معايير كوبنهاغن المؤهلة للانضمام"، وبعده عن مجلس الشؤون العامة بالاتحاد: "المجلس يلاحظ تحرك تركيا بعيداً عن الاتحاد الأوروبي. ومن ثم فإن مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قد وصلت إلى طريق مسدود".
قصارى القول: لأن تركيا، كما انطلقنا، أوروبية الهوى والمسعى، لم تكل أو تمل في إعادة طرق باب الأوروبيين، واستخدام كل ما يلزم، من غزل وترغيب وصلاحيات ضمن حلف ناتو، كقبول انضمام السويد بعد تمنّع وشروط، على أمل "واحدة بواحدة" ومعاودة التفاوض على المرحلة النهائية ودخول تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي.
لكن ذلك لم يحدث، إذ لدى الاتحاد الأوروبي، أو الدول الرافضة تركيا على الأقل، ما يرمونه على الطاولة دائماً، فتقرير "تركيا 2022" الذي نكأ بالأمس أوجاع تركيا، بعد أن استبدل بدء التفاوض بنبش قضايا قبرص وشرقي المتوسط، ليلقى موافقة من الجمعية العامة للبرلمان الأوروبي وتصاب أنقرة بالخيبة وتصف التقرير بالاتهامات المجحفة والتضليل والشعبوية.
ولا أدق ربما، من بيان الخارجية التركية اليوم، لقياس مدى الخيبة التركية من إبعادها عن عشقها الأوروبي، والذي (البيان) رغم ما تضمنه من ردود أفعال لفظية، لكنه لم يقطع الأمل بالوصال والانضمام: "نأمل أن يتصرف البرلمان الجديد، الذي سيتم تشكيله بعد انتخابات البرلمان الأوروبي العام المقبل، وفق منظور محايد وعقلاني وبنّاء".
نهاية القول: ثمة أسئلة تتوثب على شفاه كل من يتابع سعي تركيا المحموم للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أولها وما هي المكاسب التي تدفع تركيا لتنفيذ الشروط التي تخلّ ربما ببنيتها المجتمعية والقانونية وهيكليتها الاقتصادية؟
تبدو الإجابة بواقع التكتلات والاصطفاف، وبعيداً عن المواقف المبنية على اعتبارات شخصية أو ردود أفعال، أن مصالح تركيا لا تحصى إن باتت عضواً بالاتحاد الأوروبي، فالمواطن والعامل التركي سيغدو أوروبياً، يدخل دول الاتحاد عبر بطاقة الهوية الشخصية ويخضع لقانون العمل الأوروبي، وستصبح اللغة التركية لغة رسمية في الاتحاد، كما سينال المستثمرون وأصحاب الأموال تسهيلات بالسوق الأوروبية، والعكس صحيح لجهة الرساميل الأوروبية، ويمكن، ربما الأهم، استعاضة تركيا الليرة المتهاوية باليورو وتحقيق مكاسب كبيرة، ولا سيما ربطها بأكبر تكتل اقتصادي في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.
لكن السؤال الثاني هنا، هل واقع دول الاتحاد الأوروبي، عدا ألمانيا وقلة أخرى، أحسن حالاَ من تركيا اليوم، خاصة على الصعيد الاقتصادي والعسكري، بمعنى، ألن يكون دخول تركيا الاتحاد، عبئاً، وإن لأجل على أنقرة، ريثما تبدأ أكل العسل الموعود؟
ربما، وأياً كانت الأسئلة والتحليلات ومفاضلة المكاسب، ورغم ما قيل عن "صفقة" انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي "ناتو" بعد شروط وتمنّع تركيا، ثمة ما يبقي أسوار الاتحاد الأوروبي أعلى من طموح وإصلاحات ومساعي تركيا، فإن نفدت أعذار اقتراب حدود الاتحاد من دول مشتعلة "سورية العراق وإيران" لديها قبرص الجنوبية، وإن حلّت معضلة قبرص ثمة العلاقات مع روسيا.
بيد أن ما لا يقال حرجاً، إن دخول تركيا المسلمة إلى الاتحاد الأوروبي لتكون الدولة الكبرى والأقوى عسكرياً، لن يناسب الأوروبيين الذين سيختلقون أعذاراً ويضعون العراقيل والشروط بوجه العضوية الكاملة، وإن تنازلوا بمرحلة أو لطارئ، عن دخول الأتراك دول الاتحاد من دون تأشيرة أو وصول أنقرة إلى السوق الموحدة.
لكن العضوية الكاملة طريقها مسدود مسدود.. وليس أبلغ وأصدق مما قالته المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، في مناظرة تلفزيونية لها عام 2016، وإن لم تفصح وقتها عن السبب: "لن تصبح تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي أبداً".