الولايات المتحدة صامتة على محاولات الإمارات وإسرائيل ودول أخرى بدرجة أقل، إضعاف العقوبات على روسيا، ولكنه صمت لن يطول، على ما يبدو، وهناك مؤشرات تشي بأن المسألة قد تقود إلى مواجهة بين واشنطن وبين أبوظبي وتل أبيب.
ويرى دبلوماسيون أنه لن يتأخر الوقت الذي تضغط فيه الولايات المتحدة على الإمارات وإسرائيل من أجل مصادرة وتجميد الأصول الروسية، ولا يمكن لها أن تظل غير مكترثة بتحرك الرأي العام الغربي ضد رجال الأعمال المقربين من الكرملين، مثل أوليغ ديريباسكا، الذي احتل المتظاهرون منزله في لندن.
وفي الوقت الذي تشهد فيه بلدان أوروبا تدفق عشرات آلاف الفارين الأوكرانيين من جحيم الحرب الروسية، تفتح دبي وإسرائيل الأبواب أمام رجال الأعمال ومالكي الثروات الكبيرة من أصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل أريحية.
وصدر عن وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، ما يشبه التحذير لإسرائيل: "لا نريد أن تصبح الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تهدف إلى تمويل حروب بوتين"، بينما جاء أول رد فعل قوي ضد الإمارات من الاجتماع العام لـ"مجموعة العمل المالي" (FATF) الذي عقد في الفترة من 1 إلى 4 مارس/آذار الماضي، حيث وضع الإمارات العربية على "القائمة الرمادية" للدول التي يجب مراقبتها من أجل التمويل غير المشروع لمدة عام كامل، لـ"منع غسل الأموال"، وأعطى تقرير المنظمة تصنيفاً "منخفضاً" لعمليات التحقيق والمحاكمة بشأن غسل الأموال، وتصنيفاً "متوسطاً" للإجراءات الوقائية.
وقالت المجموعة إنه يجب على السلطات الإماراتية سد ثغرات في قطاعي العقارات والمعادن النفيسة، التي يمكن أن يستغلها محترفو غسل الأموال. وتسرب عن أجواء الاجتماع، إذا أخفقت الإمارات في إدخال تحسينات على نظامها المالي، فقد تجد نفسها إلى جانب دول مثل سورية واليمن وباكستان، تعتبرها المنظمة تعاني من "مواطن قصور استراتيجية".
وثمة تقديرات في أنه يمكن للولايات المتحدة أن تختار الذهاب أبعد من ذلك، مثل تقييد وصول الإمارات إلى النظام المالي الدولي، أو من خلال فرض عقوبات إضافية على بعض الشركات أو المؤسسات المالية.
وحصل هذا التحرك باتجاه الإمارات، بعد أن بدأت صور الطائرات الخاصة، واليخوت التي يملكها رجال أعمال من بطانة الرئيس الروسي، تظهر على صفحات الصحف الغربية، وهي راسية في مطارات ومرافئ دبي، بعد أن هربت من الحجز بموجب قوانين العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على هذه الطبقة المعروفة بـ"الأوليغارشية"، وهي مجموعة من المليارديرات الذين لا يتجاوز عددهم الخمسين، يجمع بينهم أنهم قريبون من بوتين، ويسيطرون على جزء من الاقتصاد الروسي، ولديهم استثمارات كبيرة في الخارج، وعلى نحو خاص في فرنسا وبريطانيا.
ومن بين اليخوت Madame Gu الفخم الذي تبلغ قيمته 156 مليون دولار، وتعود ملكيته إلى أندريه سكوتش، رجل الأعمال الروسي وعضو مجلس الدوما، والذي يخضع للعقوبات الأميركية والأوروبية.
وغير بعيد، في ميناء راشد، يرسو يخت آخر "نيرفانا"، يعود إلى ما يعرف في الصحافة الغربية بقطب معدن النيكل غير الخاضع للعقوبات، فلاديمير بوتانين. وثمة يخت ثالث "تيتان" يبلغ ثمنه 82 مليون دولار، وتعود ملكيته لرجل الأعمال وأحد أقطاب تجارة الفولاذ، ألكسندر أبراموف.
ووفقًا لبيانات خدمة تتبّع السفن، شوهدت عدة يخوت أخرى أصغر حجما، تعود لرجال أعمال روس ترسو في موانئ دبي. ومنها يختان آخران، وهما Sea & Us بقيمة 58 مليون دولار وAnatoly Sedykh البالغ قيمته 73 مليون دولار.
ويعود ميناء راشد إلى حكومة دبي، التي تمتلك أيضاً مرسى يخوت آخر يحظى بشعبية كبيرة بين المليارديرات الروس، هو بورتو مونتينيغرو في الجبل الأسود، من خلال مؤسسة الاستثمار في دبي.
وعلى غرار تهريب اليخوت إلى دبي، صارت الإمارة مهبطاً مفضلاً للطائرات الخاصة التي يمتلكها "الأوليغارشيون" الروس. وذكرت صحف غربية أنّ أربع طائرات خاصة عائدة لمليارديرية يخضعون للعقوبات الدولية حطت في دبي، هم رومان أبراموفيتش وأركادي روتنبرغ وفيكتور راشنيكوف وميخائيل غوتسيريف، وتم تعقّبها في دبي أو أبوظبي في فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين.
وتوجهت الطائرات التي تم تسجيلها مؤخراً في دبي إلى مطار دبي وورلد سنترال (DWC)، وهو أحدث مطار في المدينة وبديل لمطار دبي الدولي، حيث تهبط الغالبية العظمى من الرحلات المجدولة. ويطلق عليه "مطار المستقبل" من قبل مطارات دبي المملوكة للدولة، ولا يزال هذا المطار قيد الإنجاز، ويبدو أنّ رحلات الركاب الوحيدة التي يستقبلها حالياً هي رحلات تأجير موسمية، تقدمها أربع شركات طيران روسية من مجموعة متنوعة من المدن الروسية.
بعض اليخوت والطائرات انتقل من إسرائيل إلى دبي، ولا تتوقف أخبار الصحف عند الطائرات واليخوت، بل يكثر الحديث عن الصفقات الكبيرة التي تعقدها الشركات العقارية مع الأثرياء الروس، الذين يفضلون السكن في فيلات في منطقة الجميرة باي.
وفي حين يستفيد هؤلاء من العلاقات التي باتت تربط إسرائيل مع الإمارات، فإنّ ما يضمن وجودهم في الإمارات هو أنّ هذه الدولة رفضت أن تطبق العقوبات الدولية على روسيا، وغير ملتزمة كلياً بالإجراءات المصرفية الدولية الخاصة بتنقل الأموال، وبالتالي فإنّه لا يساور هؤلاء أي قلق على استثماراتهم في هذا البلد والمكوث لفترة طويلة.
ولا يقف الأمر عند المليارديرية الذين بدأوا بشراء البيوت الغالية جدا، بل هناك رجال من العيار المتوسط الذين لا ينافسون الحيتان الكبيرة، ويكتفي هؤلاء باستئجار بيوت فخمة. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز أنّ أحدهم استأجر بيتاً بـ 15 ألف دولار شهرياً.
رجال الأعمال هؤلاء جمعوا ثرواتهم خلال التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولأن بعضهم يشكل عمودا من أعمدة الاقتصاد الروسي أو قريب من بوتين، فإنهم أصبحوا هدفاً سهلاً للعقوبات الأميركية والأوروبية.
ويقصد هؤلاء دبي للإقامة بعد أن خسروا مواقعهم في لندن وباريس وإيطاليا وألمانيا، إما لأنهم يمتلكون أرصدة وشركات ومنازل في الإمارات أو لتأسيس شركات جديدة، والبعض الآخر يشتري عقارات هناك.
ولا يزال البعض الآخر يمارس التجارة بين الامارات وروسيا، أو يرسو في موانئ تل أبيب ودبي، أو يستخدم المطارات في رحلات العودة بالطائرة من العاصمة الروسية، التي تبعد خمس ساعات طيران عن دبي. ويسعى الجميع إلى التحايل على القيود المالية، للتعويض عن اضطرابات الروبل وحماية ثرواتهم وتجنب تجميد أصولهم.
وما تقوم به دبي ليس وليد اللحظة، بل يأتي في سياق توجه استراتيجي للإمارة منذ زمن طويل، ولذا لا يمثل دخول الأموال، من دون ضوابط متعارف عليها دولياً، أي مشكلة.
ولعقود مضت، تم اعتبار الإمارات ملاذاً للأموال المشبوهة من قبل المنظمات الدولية المعنية بالشفافية، وتقول هذه المنظمات إنّ الإمارات سمحت في السابق لإيران وكوريا الشمالية وشخصيات من النظام السوري من عائلتي الأسد ومخلوف، وفنزويلا، بتجنب العقوبات الدولية، منذ تسعينيات القرن الماضي، وضمن هذه البيئة تم تشجيع السياحة والتوطين الروسي، وهناك تقديرات أن ما بين 40 و60 ألف روسي يقيمون حاليًا في الإمارات، يستفيدون من التسهيلات الإدارية مثل الإعفاء من التأشيرات السياحية، أو الحصول على إقامة من خلال الاستثمارات، وثمة معلومات متداولة بأن 76 عقارًا على الأقل مملوكة لأقارب بوتين في دبي.
وبعض هؤلاء المليارديرية الروس من ذوي الجنسية المزدوجة، روسية-إسرائيلية، بعضهم يهود، حصلوا على الجنسية الإسرائيلية على مدى السنوات العشرين الماضية، ويعتبرون إسرائيل ملاذاً في الأوقات الصعبة. ويستفيد القادمون الجدد منهم، على وجه الخصوص، من قانون يسمح لهم بعدم الإفصاح عن دخلهم خلال فترة 10 سنوات.
ولا يبدي الباحث الفرنسي سيباستيان بوسوا، الدكتور في العلوم السياسية ومؤلف كتاب "الإمارات لغزو العالم"، تفاؤلاً بإمكانية تطبيق العقوبات الدولية على الإمارات، وعلق على نتائج اجتماع "مجموعة العمل المالي" بقوله: "سيكون الأمر صعباً للغاية، لأنّ الغربيين لديهم مصالح مشتركة مع الإمارات، بدءاً من فرنسا التي لديها عقود عسكرية ضخمة... ولا أحد من القوى الدولية جاهز في هذه المرحلة للضغط ".
ويشرح المسألة: "في الواقع، تقبل الإمارات الجميع طالما أنّ هناك الكثير من رأس المال. لقد صنعوا عادة غسل الأموال والالتفاف على العقوبات الدولية"، موضحاً أن هناك الكثير من الدول والقادة الذين استفادوا من "الغسالة الكبيرة" للإمارات لإخفاء الفساد أو التحايل على العقوبات.
ومع وجود العشرات من المناطق الحرة التي يمكن فيها إنشاء شركات، مع مشاريع عقارية لا نهاية لها للاستثمار فيها بتكتم، وفي ظل توفير تسهيلات للإقامة والإقامة للمستثمرين، وتعاون قضائي دولي محدود للغاية في البحث عن التدفقات غير المشروعة، تبقى دبي وجهة مفضلة للأثرياء الروس الجدد، ولذا تشكل الآن "باب الخروج" لروسيا التي تخنقها العقوبات الأميركية والأوروبية، لأنّ الإمارات أصبحت أقرب إلى روسيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بسبب الانكفاء الأميركي عن المنطقة.
العلاقات المالية بين الإمارات وروسيا عميقة. واستثمرت مؤسسة مبادلة للاستثمار التابعة لأبوظبي، 3.6 مليارات دولار في 50 شركة روسية اعتباراً من عام 2022. اثنان على الأقل من هذه الاستثمارات، تبلغ قيمتهما حوالي 400 مليون دولار، مرتبطان بمليارديرات روس خاضعين للعقوبات، وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، استحوذت مبادلة على 1.9 في المائة في شركة البتروكيماويات العملاقة Sibur، المملوكة جزئياً لليونيد ميخلسون الخاضع للعقوبات، وأنفقت مبادلة 175 مليون دولار لشراء 2.6 في المائة من En+ Group، وهي شركة ألمنيوم مطروحة للتداول العام، وأكبر مساهميها الملياردير الخاضع للعقوبات أوليغ ديريباسكا.