خلفيات ماليّة لعقد لبنان الحكوميّة

13 أكتوبر 2020
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدى زيارته بيروت في بداية سبتمبر الماضي
+ الخط -

منذ البداية، قامت التسوية الفرنسيّة على مقايضة واضحة، تقوم على تسليم القادة اللبنانيين بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّة عن الأحزاب السياسيّة وقادرة على تنفيذ الإصلاحات التي تحدّث عنها صندوق النقد الدولي، والتي تتماهى مع الخطوط العريضة للبرنامج الذي طرحته فرنسا للحكومة الجديدة، في مقابل توفير الفرنسيين الغطاء الدولي المطلوب لاستقدام رزم الدعم الخارجيّة. 

وفي كل هذا المسار، امتلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يريده من مصالح من هذه التسوية: موقع مميّز لفرنسا في مسار إعادة بناء وتشغيل المرفأ، وخصوصاً في ظل التنافس الفرنسي التركي على مساحات النفوذ في شرق المتوسّط، وفرص تجاريّة للشركات الفرنسيّة في الصندوق السيادي اللبناني المزمع تأسيسه، والذي سيضم أهم أصول الدولة المربحة بهدف استثمارها وفقاً لقواعد الشراكة مع القطاع الخاص. 
لكنّ تطوّرات الفترة الماضية عرقلت كل ما طمح ماكرون إلى تحقيقه، وخصوصاً بعد إصرار ما يُعرف محلّياً بالثنائي الشيعي، أي حزب الله وحركة أمل، على تسمية وزير الماليّة بالتحديد، بالإضافة إلى جميع الوزراء الشيعة في الحكومة. 
واليوم، يبدو أنّ أبرز ما يعيق إعادة إحياء مسار المبادرة الفرنسيّة، واستكمال عمليّة تسمية رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة جديدة وفقاً لبنود هذه المبادرة، يكمن تحديداً في الخلاف على وزارة الماليّة، وعلى مبدأ تسمية الوزراء من قبل القوى السياسيّة. 
عمليّاً، يمكن القول إن عرقلة تشكيلة الحكومة الجديدة في لبنان اليوم ليست سوى نتاج تقاطع عوامل دوليّة وإقليميّة ومحليّة مختلفة، انعكست جميعها في الخلاف الذي اتخذ شكل تجاذب طائفي على حقائب الحكومة الجديدة. لكن من الأكيد أيضاً أن جزءا كبيرا من التجاذب المحلّي القائم حول وزارة الماليّة مرتبط بموقع الوزارة في ظل الصراع على توزيع خسائر الانهيار المالي الحاصل، ووصايتها على الكثير من الملفات الحسّاسة التي تهم الجميع اليوم. لا بل يمكن القول أيضاً إن ما بحوزة هذه الوزارة بالذات من ملفّات في هذه الفترة يوازي بأهميّته كل ما في باقي الوزارات. وبذلك، يصبح من الواضح أن الصراع القائم اليوم على هذه الوزارة يخفي تجاذبا أشد وطأة على بعض المصالح القائمة في النظام المالي اللبناني.

فوزارة الماليّة مثلا، هي الوزارة الوصيّة على ملف التدقيق الجنائي في أرقام وميزانيات المصرف المركزي، وهو ملف دخل حيّز التنفيذ أخيراً بفعل إصرار المانحين الدوليين، وفي طليعتهم صندوق النقد الدولي، على استكماله قبل المضي قدماً في تقديم أي دعم مالي للبلاد. مع العلم أن وزير الماليّة نفسه هو الذي يفترض أن يرأس لجنة التدقيق المخصصة للإشراف على هذا المسار وإدارته. 
وزير الماليّة في الحكومة المستقيلة، كان من جملة وزراء الثنائي الشيعي الذين ساهموا في إقصاء شركة كرول، المتخصصة في إجراء عمليّات التدقيق الجنائي، بعدما أشهروا "الفيتو" في وجهها في عمليّة أدّت إلى استبدالها بشركة غير متخصصة بهذه المسائل. كما كان وزير الماليّة نفسه هو الذي أشرف على صياغة العقد الحالي مع الشركة، دون أن يتم تذليل العقبات القانونيّة في مجلس النواب، والتي باتت تحول اليوم دون إجراء تدقيق جنائي فعلي مكتمل الأوصاف، بفضل حواجز السريّة المصرفيّة التي تحول دون تتبع وجهة التحويلات والمستفيدين منها في النظام المصرفي. 
من ناحية أخرى، من المفترض أن يباشر مجلس الوزراء الجديد إعداد مسودة مشروع قانون الكابيتال كونترول، الكفيل بتنظيم وقوننة إجراءات ضبط السيولة في النظام المصرفي، ومنع الاستنسابيّة في التعامل مع المودعين على النحو الذي يسمح لأصحاب النفوذ بتهريب سيولة النظام المالي إلى الخارج. مع العلم أن هذا القانون يمثّل اليوم أيضاً شرطاً أساسياً لجميع الجهات الخارجيّة قبل منح لبنان أي قروض أو دعم مالي، كونه يمثّل ضمانة لعدم تسرّب أموال هذا الدعم من النظام المالي على النحو الذي جرى من خلاله تهريب سيولة النظام المصرفي إلى الخارج في الأشهر الماضية. 
هنا، نعود مجدداً إلى موقع وزير الماليّة، الذي تملك وزارته اختصاص إعداد وطرح مسودّة مشروع القانون هذا. وهنا نعود أيضاً إلى الاهتمام الذي أبداه وزير الماليّة في الحكومة المستقيلة، والمحسوب على حركة أمل التي تمثّل أحد قطبي الثنائي، بسحب مسودّة مشروع القانون عن طاولة مجلس الوزراء منذ شهر آذار/ مارس الماضي. أمّا السبب الأساسي الذي قدّمه الوزير في ذلك الوقت، فكان رفض "مرجعيّته السياسيّة" لهذا القانون، وهو ما أدّى إلى الإطاحة بمسار إعداده في تلك المرحلة. ونتيجة هذا الرفض، كانت تطيير المليارات من احتياطات مصرف لبنان، والتي لم يعرف اللبنانيّون حتّى اليوم مآلها أو سبب استنزافها. 

في الواقع، تتعدد الملفات التي تديرها أو تشرف عليها هذه الوزارة: فوزير الماليّة هو المكلّف باقتراح اسم حاكم المصرف المركزي في حال قرر الحاكم الحالي الاستقالة بعد تشكيل الحكومة كما يشاع. ووزارة الماليّة هي المكلّفة بمتابعة وإدارة مسار إعداد خطة التعافي المالي بعد تعديلها، وهي الخطّة التي ستحدد فعليّاً طريقة توزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار. مع العلم أن جميع الكتل النيابيّة الوازنة أبدت الاهتمام الشديد في المرحلة الماضية بالإطاحة بالخطة التي أعدتها شركة لازارد، في محاولة لتقليص حجم الخسائر التي سيتم تحميلها لرساميل النظام المصرفي.
باختصار، لا يمكن اختزال تعقّد المشهد الحكومي بمسألة دور وزارة الماليّة في سياق الانهيار المالي الراهن، فثمّة متغيّرات أخرى، وخصوصاً على مستوى الرعاة الإقليميّين الذين يعود إليهم قرار القوى السياسيّة الطائفيّة في لبنان. لكنّ الأكيد هو أن إشراف الوزارة على ملفّات ماليّة وازنة، وارتباط هذه الملفّات بمصالح ماليّة ضخمة ستكون على المحك في الفترة القادمة، كانت له علاقة بوضع الوزارة هذه موضع تجاذب أخذ طابعاً مذهبياً. علماً أن الاهتمام الذي أبداه بعض أقطاب النظام السياسي بملفّات هذه الوزارة التي ذكرناها خلال الأشهر الماضية، يؤكّد ارتباط التجاذب عليها بهذه الملفات تحديداً.

المساهمون