فاجأني سؤال الجار العزيز الذي أعرفه منذ ما يقرب من عشر سنوات، ولم أعهده مهتماً بشيء آخر طوال فترة تواجده في المسجد إلا بالصلاة وقراءة القرآن والدعاء، وزاد من دهشتي ترقب من تلاه في المجلس من مصلين لسماع الإجابة، وكأنهم ينتظرونها من محافظ البنك المركزي أو وزير المالية، وكان أغلبهم ممن أراهم ويرونني للمرة الأولى.
لم يكن قد مضى على إعلان قرار البنك الفيدرالي أكثر من ست ساعات (ونصف ربما)، يفترض أننا كنا نائمين أكثر من نصفها، إلا أن حالة الترقب التي سيطرت على المصريين خلال الأسابيع الأخيرة، وتحديداً منذ قرار البنك الفيدرالي الأميركي السابق الذي رفع فيه معدلات الفائدة على أمواله للمرة الأولى منذ عام 2018، وما أعقبه من سماح البنك المركزي المصري بانخفاض سعر الجنيه مقابل الدولار الأميركي بنحو 15%، وصلت بعد أيام إلى 18%، من قيمته، فرضت على الجميع ترقب قرار البنك الفيدرالي الجديد، الذي تزامن مع تعطيل غير مسبوق للقطاع المصرفي امتد لتسعة أيام.
استقبل المصريون الخبر وإحدى أيديهم على قلوبهم والأخرى على مدخراتهم، خوفاً من تعرضها لصدمة جديدة عند إعادة فتح البنوك في أول أيام عمل الأسبوع التالي، مع توالي ورود شائعات لا أعتقد بصحتها عن ارتفاع سعر العملة الأجنبية في السوق الثانوية خلال فترة الإغلاق. فاجأني سؤال الجار العزيز لتوقيته في اللحظات التي تسبق صلاة الفرض، إلا أن محتواه كان مكرراً، حيث سمعته من أصدقائي الكرام السائق والحلاق ورجل الأعمال والسفير ولواء الشرطة ولواء الجيش ولواء المخابرات والقاضي وبعض المتقاعدين.
لم يصبح كل هؤلاء فجأة مهتمين بالاقتصاد، أو بالعملة الوطنية، أو بمعدلات التضخم والنمو والتوظيف، أو بموازين التجارة والمدفوعات والحساب الجاري، وإنما انصب اهتمامهم على مداخيلهم ومدخراتهم، وما يمكن أن يتسبب فيه أي تخفيض جديد للعملة الوطنية من آلام وصعوبات، تعكس حقيقة تراجع قواهم الشرائية وانخفاض مستوى معيشتهم.
ورغم مبادرة بنكَي الحكومة الأهلي ومصر في المرة السابقة بتقديم شهادات ادخارية سنوية بفائدة مرتفعة وصلت إلى 18%، لتعويض المدخرين بالجنيه عن انخفاض قيمة عملتهم، وبعد جمع البنكين أكثر من 600 مليار جنيه من أموال المودعين في تلك الشهادات، بدأ البعض يشعر بعدم كفاية العائد المرتفع في تعويض الخسائر في قيمة العملة المحلية مع وجود توقعات بإجراء خفض جديد لها خلال الشهور القادمة.
يتفق أغلب المحللين على أن الهدف الأول الذي ينبغي لأي حكومة أن تسعى لتحقيقه هو رفع مستوى معيشة المواطنين، وله وحده تكون كل السياسات والخطوات مبررة، وإن لم تكن معتادة.
وأظهرت الفترة الماضية غياب الرؤية الواضحة، لدى المواطن أو صانع القرار، عن المستوى الذي يمكن أن يكون عليه سعر الجنيه مقابل الدولار مستقبلاً، وما قد يتسبب فيه ذلك من معدل تضخم يطيح بنسبة كبيرة من المدخرات، الأمر الذي قد يتسبب أحياناً في الندم على شراء الشهادات التي بدت رائعة وقت شرائها.
وللتغلب على تلك الصعوبات، وتفهماً لأوضاع الملايين ممن يعيشون على عوائد تلك الشهادات من كبار السن والمتقاعدين والأسر منخفضة الدخل، ومع ارتفاع معدل التضخم في كثير من الأحيان لمستويات غير محمودة، أصدرت الولايات المتحدة عام 1997 "سندات الخزانة المضادة للتضخم Treasury Inflation-Protected Securities"، المعروفة اختصاراً باسم TIPS، ذات العائد الثابت، التي تعوض حامليها حال ارتفاع معدل التضخم في البلاد قبل تاريخ استحقاقها.
تعوض وزارة المالية الأميركية حامل السند عند ارتفاع التضخم بزيادة أصل المبلغ Principal المستحق في نهاية المدة بنفس نسبة ارتفاع الأسعار (أي بمعدل التضخم)، وفقاً لأرقام التضخم المعلنة في البلاد. وتصرف تلك السندات العائد كل ستة أشهر كنسبة من أصل المبلغ، وبالتالي يرتفع العائد، مع ارتفاع الأصل نتيجة لارتفاع معدل التضخم، وهو ما يضمن، من الناحية النظرية على الأقل، منح المدخر أو المستثمر عائداً حقيقياً إيجابياً فوق معدل التضخم السائد في البلاد.
المنتج الذي تقدمه وزارة المالية الأميركية، والذي تم العمل بإحدى صوره للمرة الأولى عام 1780، حين طرحت إحدى الشركات الأميركية سنداتها طبقاً لتلك المواصفات، وباعت الحكومة البريطانية سندات تشبهه عام 1981، يمكن تقديمه للعملاء من مدخري الجنيه المصري، سواء في صورة سندات يصدرها محمد معيط وزير المالية، أو في صورة شهادات ادخارية يصدرها البنك الأهلي وبنك مصر.
هذه المنتجات ستسمح للمصريين بالادخار بعملتهم المحلية، دون الخوف من انخفاض القوة الشرائية للمبلغ المستحق عند نهاية فترة الاستثمار، أو للمدفوعات نصف السنوية، كنتيجة لتراجع سعر الجنيه المصري مقابل الدولار.
وفي حالة تراجع معدل التضخم في مصر وانخفاض الأسعار، كنتيجة لارتفاع سعر الجنيه مقابل الدولار، لا ينقص المبلغ المستحق، ولا تقل قيمة الكوبون نصف السنوي، لأن الحكومة وبنوكها لا تستهدف التربح من المواطن من خلال هذا المنتج، وإنما هي تسعى لحمايته من مخاطر التضخم الآخذة في الارتفاع.
إذا أمكن تقديم منتج مشابه من البنوك المصرية لعملائها في الفترة الحالية، تكون الحكومة قد ضربت عدة عصافير بحجر واحد. فمن ناحية، تكون قد عوضت المواطنين عن معدل التضخم المرتفع الناتج عن ارتفاع سعر الدولار، ومن ناحية أخرى توفر نسبة لا يستهان بها من الطلب على العملة الأجنبية من المستثمر المرعوب من تراجع سعر الجنيه، وفي نفس الوقت تجنب العملاء ونفسَها مشقة إصدار شهادة بعائد أعلى مع كل رفع لمعدل الفائدة، وهرولة العملاء من بنك لبنك للاستثمار بالمعدلات الأعلى، كما حدث قبل شهرين.