فتحت الحرب الروسية في أوكرانيا، وما تلاها من انقلابات عسكرية في أفريقيا، الباب نحو تحول القارة السمراء من النفوذ الغربي إلى الروسي، وبالتالي احتمال الصراع بين موسكو وواشنطن وحلفائها حول الوقود النووي ومكامن احتياطات اليورانيوم التي تسيطر عليها في الوقت الراهن موسكو.
وربما تتزايد شراسة هذا الصراع مع التوجه الجاري نحو التحول من الطاقات الأحفورية التقليدية إلى الطاقات البديلة، ومن بينها المفاعلات النووية التي باتت واحدة من أهم مصادر توليد الكهرباء في أوروبا وأميركا.
ولمعرفة أهمية روسيا العالمية في إنتاج الطاقة النووية عالمياً، يلاحظ، أن الرئيس الأميركي جو بايدن بعد وقت قصير من غزو روسيا لأوكرانيا، وتحديداً في مارس/آذار العام 2022، وقع أمرًا تنفيذيًا يحظر استيراد النفط الروسي والغاز الطبيعي والفحم الروسي إلى الولايات المتحدة، ولكنه تجاهل حظر الوقود النووي. والسر في ذلك ببساطة يعود إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يعتمدون بشكل كبير على استيراد اليورانيوم والوقود النووي الروسي.
ووفقًا للرابطة النووية العالمية، تمتلك روسيا وحدها 48 مليون وحدة عمل تخصيب مقابل 33 مليون وحدة من بين 81 مليون وحدة تخصيب في العالم. ويقول التقرير الصادر عن الرابطة إن حظر صادرات روسيا من التخصيب النووي سيقود إلى فجوة في الطلب العالمي على الوقود النووي تقدر بنحو 30%.
كما يرى التقرير أن ذلك سيقود تلقائياً إلى أزمة في الكهرباء في أوروبا، التي تواجه أزمة طاقة منذ العام 2021. ويفسر ذلك النشاط الروسي غير العادي في كسب عقود إنشاء محطات توليد الطاقة الكهربائية نووياً في أنحاء العالم.
وحسب بيانات شركة "يورانيوم ماركتنغ" الأميركية للأبحاث، فإن الولايات المتحدة تستورد اليورانيوم الخام من كندا بنسبة 27% ومن كازاخستان بنسبة 25% وبنسبة 12% من روسيا و11% من أوزبكستان و9% من أستراليا والباقي من دول أخرى.
ووفقاً لبيانات الشركة المتخصصة في تجارة اليورانيوم، استوردت الولايات المتحدة في العام الماضي 2022 نحو 40.5 مليون رطل من اليورانيوم من هذه الدول. لكنها تعتمد بشكل رئيسي في إمدادات الوقود النووي على شركة "روساتوم" المملوكة للحكومة الروسية.
وتشير البيانات إلى أن الشركات الأميركية استوردت نحو 24% من اليورانيوم الخام، و28% من الوقود النووي المخصب من روسيا في عام 2021، كما تمد شركة "روساتوم" الروسية الاتحاد الأوروبي بنحو 20% من واردات اليورانيوم، و26% من الوقود النووي.
ويرى خبراء أن واشنطن وحلفاءها في أوروبا قد لا يتمكنوا من حظر اليورانيوم والوقود النووي الروسي في المدى القريب، على الرغم من إلحاح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والمجتمع الدولي بضرورة حظر واردات اليورانيوم الروسي، في أعقاب القصف الروسي بالقرب من محطة كهرباء زابوريزهيا في أوكرانيا.
وفي ذات الصدد، وحسب تقرير بنشرة "أويل برايس" الأميركية تشتري الشركات الأميركية، وقود نووي بقيمة تفوق مليار دولار سنوياً من شركة "روساتوم" المملوكة للحكومة الروسية. كما استوردت يورانيوم مخصب بقيمة 411.5 مليون دولار في الربع الأول من العام الجاري 2023 وحده.
في هذا الصدد، يقول المستشار النووي للبيت الأبيض في مجلس الأمن القومي براناي فادي "نحن ندفع تكاليف الاعتماد المفرط على روسيا للحصول على الوقود النووي ولسنا وحدنا، بل العالم كله".
ويقول، إن ذلك ببساطة، يعود إلى أن روسيا تهيمن على مكامن اليورانيوم الكبرى في العالم، كما تملك تقنيات التخصيب المتقدمة التي لا توجد لدى الدول الغربية.
في ذات الصدد، يقول خبراء أميركيون، كانت الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً من اليورانيوم قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن مع نهاية الحرب الباردة، تخلت واشنطن إلى حد كبير عن صناعة تخصيب اليورانيوم، وبشكل حاسم عن عمليات التحويل المعقدة، وباتت تعتمد "على الإمدادات الروسية في تلبية احتياجاتها من الوقود النووي، وأيضاً بعض الدول الأخرى التي لا تضع المصالح الأميركية في الاعتبار".
ووفقاً لرئيس مختبر أيداهو الوطني التابع لوزارة الطاقة الأميركية، جون فاغنر، فإن اعتماد واشنطن على روسيا، عبارة عن مزيج من الحظ الجيولوجي والابتكار الهندسي والاتفاق الدبلوماسي وحسن النية الذي وافقت عليه واشنطن وموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
ويشير فاغنر إلى أن روسيا لديها مخزونات كبيرة من اليورانيوم، مما يمنحها دوراً طبيعياً في الهيمنة على الطاقة النووية، كما أن المهندسين الروس طوروا نظاماً لتخصيب المواد المشعة، هو الأقل استهلاكاً للطاقة مقارنة بعمليات التطوير الفرنسية والأميركية، الأمر الذي جعل الوقود النووي الروسي أرخص بكثير من كلفة الوقود النووي لدينا ولدى الدول الأخرى. ويشير إلى أن هذه العوامل منحت روسيا دوراً كبيراً في مجال التخصيب النووي.
وفي العام 1993، اتفقت الولايات المتحدة وروسيا على برنامج يعرف شعبياً باسم برنامج "من ميغا طن إلى ميغاواط"، حيث يتم عبر هذا البرنامج تحويل اليورانيوم عالي التخصيب من الرؤوس الحربية النووية السوفياتية السابقة إلى يورانيوم منخفض التخصيب، وشحنه إلى الولايات المتحدة لتشغيل المحطات النووية التي تعمل في توليد الكهرباء.
وببساطة كان اهتمام واشنطن في تلك الفترة بتفكيك الإمبراطورية الشيوعية والقضاء على منشآتها النووية أكثر من اهتمامها ببناء صناعة كفؤة للوقود النووي. وتخلت أميركا بذلك عن تطوير صناعة الوقود النووي في سبيل إغراء روسيا مادياً، بتفكيك ترسانتها النووية، عبر استيراد اليورانيوم المستخدم في الرؤوس النووية. وبالتالي، لم تتمكن الصناعة الأميركية من التنافس مع الروس في تقنيات الوقود النووي، خاصة وأن البيت الأبيض الديمقراطي وقتها لم يدعم صناعة الوقود النووي محلياً.
الحلول الأميركية المقترحة:
حذرت الصناعة النووية الأميركية من مخاطر اعتماد البلاد على مصادر أجنبية في إمدادات الوقود النووي، خاصة بعد انقلاب النيجر والتحول الواضح في العديد من دول غرب أفريقيا عن النفوذ الفرنسي، وتوجهات قادة الانقلابات نحو روسيا والصين.
وحسب شركة " يورانيوم ماركتنغ" الأميركية تتجه أميركا نحو التوسع في تخصيب اليورانيوم، خاصة مصنع "يورينكو" الذي زود الولايات المتحدة بالوقود لأول قنبلة ذرية أميركية على الإطلاق، والذي يطلق عليه اسم مشروع مانهاتن. ويعد مصنع يورينكو، الذي بلغت تكلفته 5 مليارات دولار في يونيس بولاية نيو مكسيكو، موطنًا لمئات من أجهزة الطرد المركزي الضخمة التي تدور بسرعات تفوق سرعة الصوت لفصل نظائر اليورانيوم اللازمة لإنتاج الوقود لمحطات الطاقة النووية.
وحالياً تعمل شركة يورينكو، التي توفر نحو ثلث الطلب الأميركي على اليورانيوم المخصب، على زيادة إنتاجها بنسبة 15%، في إطار تطلعها لتجديد إنتاج الطاقة النووية بين أسطول المفاعلات النووية الغربي.
ووفقًا للرئيسة التنفيذية لشركة يرينيكو كارين فيلي، سيتم الانتهاء من التوسع المخطط لمنشآت نيو مكسيكو في عام 2027، والذي سيكون كافياً، جنبًا إلى جنب مع زيادة نشاط الشركة الأم في أوروبا، لتغطية الحصة الأميركية المستوردة من روساتوم في السوق الأميركية.
وقالت فيلي: " شركتنا ستوفر الحل المعقول بالنسبة للولايات المتحدة، حيث أن زيادة الإنتاج من شركة يورينكو ستكون كافية لتغطية أي فجوة في الواردات الروسية". ولكن الكرملين يرى أن ذلك قد لا يحدث في الوقت القريب، لأن المحاولات السابقة التي بذلتها أوروبا لبناء سلسلة توريد متكاملة لليورانيوم المخصب بوحدات فردية في مناطق نائية لم تكن ناجحة.