تَعِبنا

08 أكتوبر 2024
نازحون يرحلون صوب الأراضي السورية (الأناضول)
+ الخط -

وكأنه كابوس بلا نهاية. خمس سنوات واللبنانيون يتلقون المصيبة تلو الأخرى. خمس سنوات مأساوية، وكل مأساة كانت توصف بـ "التاريخية". وها هو العدوان الإسرائيلي الذي تعاظم في سبتمبر/ أيلول الماضي على لبنان، يكلل المصائب بالموت والدمار والتشرد.

المصائب الكبرى بدأت في العام 2019 بأكبر عملية نهب قامت بها مافيا الأحزاب المسيطرة على البلد وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف. صدمة انهيار الاقتصاد اللبناني كانت ضخمة، وقد وصفها البنك الدولي بأنها من بين أسوأ الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم منذ العام 1850. سرقت المافيا أكثر من مليون مودع غالبيتهم من اللبنانيين. سرقت الودائع الصغيرة والمتوسطة طبعاً، تلك الكبيرة التي تعود إلى المافيا ذاتها وحاشيتها تم تهريبها وهي تقدر بمليارات الدولارات. آلاف اللبنانيين احتجزت ودائعهم الدولارية، جنى عمرهم، وقررت المافيا إعادتها بالتقسيط المريح بالليرة اللبنانية المنهارة، لتصبح هذه الودائع بلا قيمة.

من كان يعتبر نفسه مستقراً مالياً، أصبح ينوء تحت ثقل الفقر. من كان يعتبر أنّ شيخوخته آمنة، أصبح بلا معين. من كان يعتبر أن بلده سيحتضن مشروعه مهما كان صغيراً، تردد حد وقف استثماره. وبالطبع تقاذفت أطراف العصابة الاتهامات، أبرزها ما أعلنته جمعية المصارف اللبنانية أن الحكومة بددت أكثر من 121 مليار دولار من أصل قرابة 124 مليار دولار كانت في شكل ودائع بالبنوك قبل تفجر الأزمة الاقتصادية في أواخر العام 2019 بسبب فساد الطبقة السياسية.

وبعد انكشاف عملية النهب الضخمة، انطلقت انتفاضة حرّكت الشارع اللبناني بغالبية أطيافه ضد المنظومة السياسية الفاسدة، إلا أنه تم قمع المتظاهرين والمعتصمين بقسوة، مع قتل عدد منهم، وقنص عيون بعضهم، وملاحقة آخرين وسجنهم، إلى حد ملاحقتهم من قبل المليشيات بالهراوات في الشوارع، بموازاة إطلاق حملة ضخمة لتخوين المنتفضين وربطهم بأجندات خارجية واتهامهم بأنهم هم من تسببوا بالأزمة الاقتصادية لا العصابة التي تسيطر على عدد لا يستهان به من الأتباع، بعدما أفقرت هؤلاء منذ انتهاء الحرب الأهلية وتحولت بخدماتها الممولة من المال العام بديلاً عن الدولة ومكتب توظيف رديفاً في المؤسسات العامة، ومصدر استقواء ونفوذ يستخدم الطائفة والمذهب والسلاح لتحويل كل تابع إلى حطبة في الاشتباكات والحروب الصغيرة منها والكبيرة.

وخلال هذه الأزمة القاسية التي دمرت بنية الاقتصاد اللبناني ورفعت التضخم والأسعار وحولت آلاف المواطنين إلى فقراء، جاءت إغلاقات كورونا، وكانت الصدمة الثانية الغريبة وغير المتوقعة للبنانيين المنكوبين بالعصابة والأزمة النقدية الكبرى. فقد الآلاف وظائفهم بعدما أغلقت المؤسسات بغالبيتها أبوابها، وعاش اللبنانيون المنهوبون رعب كورونا بجيوب فارغة.

وفوق المصيبتين، حدث في 4 أغسطس/ آب 2020 ما لم يكن يخطر في مخيلة المواطنين ولو للحظة. عند الساعة السادسة وسبع دقائق، شهدت بيروت انفجاراً ضخماً كان مسرحه المرفأ، وقد وصف بأنه أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ. دُمّرت أجزاء واسعة من العاصمة اللبنانية، وقُتل أكثر من 200 شخص، وجرح الآلاف. وتسبب "بيروتشيما" وفق تعبير البعض، بأضرار وخسائر اقتصادية راوحت بين 6,7 و8,1 مليارات دولار وفق إحصاءات البنك الدولي، ليزيد رصيد الخسائر وتتعمق الأزمة الاقتصادية والمعيشية في البلاد.

هكذا، دخل الاقتصاد ومعه اللبنانيون منذ العام 2020 حقبة عاصفة من الأزمات المركّبة، فيما تتنعم العصابة بثرواتها المتراكمة من صفقات الفساد وسرقة موارد البلد من أملاكه البحرية والنهرية، وصولاً إلى إدارة الاقتصاد الموازي الضخم الذي يحكم قبضته على كل شيء تقريباً، من مولدات الكهرباء الخاصة والمياه الموزعة للاستخدام المنزلي والإنترنت والمياه المعبأة وغيرها من الخدمات، مع العبث المستمر بكل المؤسسات الرسمية المسؤولة عن تقديم الخدمات للمواطنين. وذلك وسط تعطيل الجهاز القضائي، وشن حملات ضد القضاة الذين يحاولون القيام بواجباتهم البعيدة عن أهواء العصابة ومصالحها، بالتزامن مع تدخل سافر في التعيينات القضائية، جعل أعمدة العدالة في لبنان جزءاً من محاصصات أحزاب مكان مسؤوليها لا يجب أن يكون سوى خلف قضبان السجون.

وفي نهاية 2022، حلت أزمة التعطيل المؤسساتي، في ظل غياب رئيس للجمهورية منذ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022،

وهو ثاني أطول شغور رئاسي في تاريخ لبنان (حتى اليوم)، بعد الشغور الذين استمر عامين ونصف العام، بين انتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان في 25 مايو/ أيار 2014، وانتخابات الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2016. فقد انتهت ولاية عون، واستبق الأخير رحيله بتوقيع مرسوم اعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة. ومنذ ذلك الحين، دخلت عملية انتخاب رئيس للجمهورية بازار الصراعات، فيما يعيش البلد بلا حكومة أصيلة قادرة على اتخاذ قرارات تنفيذية واسعة.

وبين مصيبة وأخرى، يغرق اللبنانيون في المتاعب، فيما أصبح بلدهم المنهوب مفلساً. الكهرباء أصبحت لا تزور البيوت إلا ساعتين يومياً بحد أقصى، فيما تركت الساحة لأصحاب المولدات التابعين بغالبيتهم للعصابة، والذين رفعوا أسعار التزود بالكهرباء إلى مستويات جهنمية لا تقل عن 100 دولار شهرياً، في بلد هبط فيه الحد الأدنى للأجر إلى 150 دولاراً، ليرتفع في فبراير/ شباط الماضي للقطاع العام ومايو/ أيار للقطاع الخاص إلى 18 مليون ليرة (400 دولار)، فيما بينت أبحاث "الدولية للمعلومات" أنّ أسرة لبنانية مؤلفة من أربعة أفراد، تعيش "عيشة متقشفة جدا"، تحتاج إلى 52 مليون ليرة شهرياً.

وفقدت العملة المحلية نحو 95% من قيمتها منذ العام 2019، بعدما كان الدولار يوازي 1500 ليرة لبنانية، وأصبح اليوم يحوم حول الـ 90 ألف ليرة، ما دفع التضخم ليتعدى الـ100% منذ عام 2021، وصولاً إلى 231.3% في عام 2023. فيما تصدّر لبنان قائمة البلدان الأكثر تأثراً بالتضخم الاسمي لأسعار المواد الغذائية في الربع الأول من عام 2023 (بنسبة 350% على أساس سنوي في إبريل/نيسان 2023)، بحسب أبحاث البنك الدولي.

وهذه الظروف القاهرة دفعت حوالى 425 ألف شخص للهجرة من لبنان بين عامي 2017 و2023، وكذا ارتفعت البطالة بين الشباب وفق منظمة العمل الدولية إلى 47.8%. في مقارنة مع متوسط 27% في العالم العربي.

وبالنتيجة، جاء لبنان في المرتبة الثانية عالمياً في التعاسة، بعد أفغانستان، وفقاً لمؤشر غالوب للسعادة العالمية للعام 2024.

واليوم، يحمل اللبنانيون صليب كلّ هذه الأزمات والقهر، ويعدّون أيامهم المتبقية أمام عدوان إسرائيلي يعتبر "تاريخياً" هو الآخر، كونه الأكثر دموية منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، مع 1204 شهداء و3411 مصاباً، وتشريد مليون و200 ألف نازح خلال 14 يوماً فقط (منذ 23 سبتمبر الماضي حتى يوم الأحد)، فيما العصابة لا تحرك ساكناً، مع غياب أي دعم رسمي للنازحين وضعف خطط الإجلاء والإيواء، وشغور رئاسي وحكومي في بلد منهوب اقتصاده وقراره السياسي.

إسرائيل تعتدي من جهة، والعصابة تراقب الموت والدمار بصمت الحجر من جهة. قصف وفقر، هدم وذل، وعدد كبير من اللبنانيين يصرخ ولا من يسمع صوتهم: تَعِبنا.

المساهمون