تستعد سلطات تونس لإطلاق أصناف جديدة من الخبز المدعم في الأسواق، بهدف كبح المضاربة في الدقيق من قبل المخابز، وإنهاء أزمة التموين التي يعاني منها التونسيون منذ أشهر.
وأعلنت وزارتا التجارة والفلاحة عن قرب الشروع في تسويق صنف مستحدث من الخبز المدعم يحتوي على كميات أكبر من الألياف المستخرجة من الحبوب، أو ما يصطلح عليه محلياً بـ"النخالة"، باعتبارها ستكون أفضل لصحة المواطنين.
وقال وزير الفلاحة، عبد المنعم بالعاتي، في تصريحات إعلامية، يوم الجمعة الماضي، إن الحكومة بصدد تنفيذ استراتيجية لحوكمة استعمال دقيق القمح اللين المستورد، عبر تغيير تركيبة الخبز المدعم، مؤكداً أنه يجري "العمل على تغيير تركيبة دقيق الخبز المستخرج من القمح اللين إلى نوعية أخرى، ستحافظ على تسعيرة هذه السلعة المدعمة.
وتشهد تونس منذ نحو عام أزمة في الخبز المدعم، الذي اختفى من مناطق عديدة، بينما يتوفر لدى الأفران التي تبيعه بأسعار محررة. وتفسّر الرواية الرسمية التي تتمسّك بها السلطة نقص الخبز المدعم بتعمد شبكات المضاربين إخفاء الدقيق، والتلاعب به من أجل توجيهه نحو صناعة الحلويات ومعجنات أخرى تباع بأثمان عالية.
لكن الدولة في تونس تحتكر نشاط توريد وتوزيع حصص مشتقات الحبوب التي تذهب لصناعة الخبز المدعم، عبر ديوان الحبوب الحكومي، وهي مؤسسة تشكو من عجز مالي، وارتفاع مديونيتها لدى البنوك إلى نحو 5 مليارات دينار (حوالي 1.6 مليار دولار). وينفذ ديوان الحبوب الحكومية حصرياً صفقات شراء الحبوب، سواء من المزارعين في تونس، أو الاستيراد من السوق العالمية.
ويقول الصادق الحبوبي، أمين مال غرفة المخابز المصنفة (التي تصنع الخبز المدعم) إن إضافة كميات من الألياف للدقيق المخصص لصناعة الخبز المدعم كان مطلباً للمهنيين، من أجل كبح التلاعب في المواد الأولية، والحد من نشاط شبكات المضاربة.
ويضيف الحبوبي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن غرفة الخبازين اقترحت منذ أشهر على وزارة التجارة إيجاد صيغ تمكن من التمييز بين الدقيق المدعم والدقيق غير المدعم الذي يستخدم في صناعة الخبز الحر أو الحلويات، وذلك لإحداث فارق بين النوعين، بما يسمح بالسيطرة على أشكال التلاعب في الدقيق المدعم.
ويشير إلى أن الخبز المعزز بالألياف من العادات الغذائية القديمة للتونسيين، حيث كانت الأسر تعتمد بشكل كامل على أصناف من خبز الشعير والسميد والنخالة، قبل أن توسع شبكة المخابز منذ سبعينيات القرن الماضي.
وتنقسم صناعة الخبز في تونس بين صنفين من الأفران صنف المخابز التي تحصل على الدقيق المدعم وتلتزم بالتسعيرة الحكومية للخبز وأخرى تصنع الخبز، وفق أسعار حرة. وتصنع الأفران التونسية يومياً 6.7 ملايين رغيف، منها 3.9 ملايين رغيف كبير، و2.7 مليون رغيف من الصنف الأقل حجماً، أو ما يصطلح عليه محلياً "الباقات"، إذ يجري استهلاك 6.5 ملايين قنطار (65 ألف طن) من الدقيق، وفق بيانات رسمية.
ويبلغ السعر الحقيقي للخبز الكبير من دون دعم 465 مليماً للخبزة الواحدة، ويباع للعموم بسعر 230 مليماً، فيما تباع "الباقات" وهي وحدة الخبز الأقل حجماً بـ190 مليماً مقابل سعر حقيقي بـ274 مليماً (الدينار= 1000 مليم).
ومنذ شهر أغسطس/ آب الماضي شنّت سلطات تونس حملات واسعة النطاق على المخابز التي يشتبه في تلاعبها بالدقيق المدعم، انتهت بالزج برئيس غرفة المخابز محمد بوعنان، الذي لا يزال قيد المحاكمة، في السجن.
وبالإضافة إلى إيقاف مهنيين وُجّهت لهم تهمة الاحتكار، أطاحت أزمة الخبز بمسؤولين في الدولة، من بينهم المدير العام السابق لديوان الحبوب الحكومي بشير الكثيري.
وتحمّل سلطات تونس مسؤولية أزمة التزود بالخبز ومواد غذائية أخرى لشبكات الاحتكار والمضاربة التي تتهمها بـ"التلاعب بقوت التونسيين"، متوعدة بتعقبهم وتطبيق قانون مكافحة الاحتكار ضدهم بعقوبات تصل إلى السجن لمدة 20 عاماً.
ويُقدر عدد الأفران المصنفة (التي تصنع الخبز المدعم) بنحو 3317 مخبزاً تشغل في الحد الأدنى 4 عمال، بحسب كراس الشروط المنظمة لهذا الصنف من الأفران. وتستفيد هذه الأفران من حصص شهرية تقدر بـ 118 قنطاراً (القنطار يعادل 100 كيلوغرام) من الدقيق المدعم لصناعة الخبز، لصالح شرائح واسعة من التونسيين، إلى جانب تموين مؤسسات الدولة، ومنها المستشفيات والنُّزل الجامعية والسجون والثكنات.
لكن خبراء اقتصاد يعتبرون أن أزمة التزوّد بالخبز أعمق بكثير من آليات مكافحة الاحتكار وتعقّب المخالفين قضائياً، مطالبين بإعادة نظر شاملة في منظومة إنتاج الغذاء، وفق تصورات جديدة تتماشى ومتطلبات السوق المحلية والمستجدات العالمية.
ويقول وزير التجارة السابق محسن حسن لـ"العربي الجديد" إن السلطة مطالبة بإعادة النظر في طرق تسيير المؤسسات الحكومية المكلفة بالمشتريات العمومية، ولا سيما منها مشتريات الغذاء، على غرار دواوين الحبوب والزيت والتجارة.
ويرى حسن أن انفراج أزمة الخبز المدعم والمواد الغذائية عموماً مرتبط بمعالجة الأسباب الحقيقية لتراجع قدرة المؤسسات المكلفة بتنفيذ مناقصات التموين، وتحسين صلابتها المالية، مؤكداً أن كل الحلول الأخرى تبقى ترقيعية ومحدودة النجاح، مع تواصل اعتماد السلطة على آلية دعم الغذاء في شكلها الحالي.
وكانت منظمة "آلارت"، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في مكافحة الممارسات الاحتكارية في تونس، قد قالت في تقرير لها في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إن منظومة الحبوب في تونس تواجه أزمة خطيرة تهدد توفر مادة الخبز الأساسية للمواطنين، مشيرة إلى اضطراب الواردات، ووجود نقص فادح في مخزونات الديوان الوطني للحبوب والمطاحن.
ويقول الباحث الاقتصادي، فتحي زهير النوري، إن سلطات تونس مطالبة بإصلاح منظومة الحبوب، مقترحاً اللجوء إلى مكاتب دراسات عالمية، من أجل إعداد دراسات للإصلاح، وفقاً لاحتياجات وإمكانيات السوق التونسية.