السيناريو معروف، فضرب أي سوق صرف يبدأ بدفع الاستثمارات الأجنبية بالدولة نحو الهروب منها، والبداية تكون بالاستثمارات الساخنة في البورصات وأدوات الدين الحكومية كالسندات وأذون الخزانة لسهولة تسييل أموالها، ثم الاستثمارات المباشرة في مشروعات متعددة الجنسيات خاصة تلك المملوكة لأجانب.
وعقب هذا الخروج أو الهروب يحدث ضغط شديد على موارد النقد الأجنبي وزيادة في الطلب على الدولار والعملات الرئيسية كاليورو والإسترليني، وهنا يحدث تراجع في قيمة العملة المحلية مقابل هذه العملات، بل وقد يصل الأمر إلي حد حدوث نزيف للعملة المحلية، وفي هذه الحالة تضطر الدولة، عبر البنك المركزي، للتدخل لوقف نزيف عملتها، وهنا يتم السحب من احتياطي البلد الأجنبي الذى يتراجع بدوره، وهو ما قد يؤدي في النهاية لتراجع قدرة الدولة علي سداد ديونها الخارجية والتزامات وارداتها ويؤثر سلباً علي تصنيفها الائتماني.
وتزداد المشكلة حينما يتوقف البنك المركزي عن التدخل لوقف الانهيار في العملة المحلية حفاظا على الاحتياطي الأجنبي من التآكل، حيث يترتب على هذه الخطوة ظهور السوق السوداء التي تمثل قلقا شديداً للمستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء، ويواكب هذه الخطوة أيضاً زيادة في الاقبال على حيازة الدولار وتخزينه وهي العملية المعروفة باسم "الدولرة"، وهذا في النهاية يشكل ضغطاً إضافياً علي سوق الصرف.
هذا السيناريو حدث مع دول جنوب شرق أسيا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وحدث أيضاً في بريطانيا ابان حكم مارجريت تاتشر، ويحدث الآن مع روسيا، فمنذ إعلان الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والدول المتحالفة معها، فرض عقوبات اقتصادية ضد موسكو، بسبب موقفها من الأزمة الأوكرانية، وهناك ضغوط شديدة على سوق الصرف الروسي.
وأدت هذه الضغوط إلى تراجع سعر صرف الروبل الروسي 30% مقابل الدولار، ورغم تدخل البنك المركزي الروسي المستمر للحيلولة دون انهيار الروبل، إلا أنه قرر مؤخرا وقف تدخله في سوق الصرف بسببي ضخامة التكلفة البالغة 350 مليون دولار يوميا، وألغى البنك نطاق التداول الذي كان معمولاً به لتحديد سعر صرف الروبل أمام سلة من الدولار واليورو.
وهناك حديث الآن يدور حول اتجاه حكومة بوتين لفرض قيود على بيع العملة الصعبة لوقف نزيف الروبل والحفاظ على الاحتياطي الأجنبي، وهو ما قد يصعب الأزمة الحالية التي تمر بها موسكو، كما تراجعت صادرات روسيا والتدفقات الاستثمارية المتجهة لها بسبب العقوبات الغربية المتعلقة بالأزمة الأوكرانية وانخفاض أسعار النفط.
وشهدت روسيا نزوح رؤوس أموال بقيمة نحو 60 مليار دولار منذ بداية العام 2014 وحتى منتصف شهر أبريل/ نيسان الماضي، بما يتجاوز إجمالي رؤوس الأموال التي خرجت في عام 2013 كله، وأظهرت بيانات، المصرف المركزي الروسي، أن صافي رؤوس الأموال التي أحولتها الشركات والبنوك إلى خارج روسيا في الربع الأول من العام الجاري بلغ 50.6 مليار دولار.
وسجل احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي الروسي انخفاضًا ملحوظاً ليبلغ 439.1 مليار دولار حتى 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مقابل 473.9 مليار دولار في شهر أبريل/نيسان الماضي ليفقد 34.8 مليار دولار في أقل من 4 شهور.
إذن هناك حرب اقتصادية يشنها الغرب ضد روسيا لموقفها من أزمة أوكرانيا، وبحساب الربح والخسائر، نجد أن روسيا هي الخاسر الأكبر من هذه الحرب، ومن الواضح أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يسعى لتركيع موسكو وهزها اقتصاديا لإرغامها على قبول حلولها بخصوص الأزمات العالقة بينهما وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي نجح في التصدي لتداعيات الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الولايات المتحدة عام 2008، الا أن السؤال المطروح هو: هل ستقاوم موسكو للنهاية أم تخضع للابتزاز الغربي الذى تقوده أميركا؟