تحوّلات في بنية المجتمع اللبناني

29 نوفمبر 2021
تزايد عدد المهاجرين من لبنان بسبب الأزمة المالية (getty)
+ الخط -

لا يبدو أن آثار الأزمة الماليّة التي يمر بها لبنان ستقتصر على المؤشّرات المعيشيّة التي يشعر بها المقيمون يوميّاً، ولا على المؤشّرات النقديّة والماليّة المتعلّقة بواقع القطاع المصرفي وماليّة الدولة والعملة المحليّة.

إذ يبدو أن الأزمة بدأت تترك أثرها على بنية المجتمع اللبناني وتركيبته، سواء من خلال أعداد المهاجرين وخصوصاً من فئة الشباب، أو عبر فقدان البلاد لكوادرها المؤهّلة في القطاعات الأكثر حساسيّة، أو حتّى من جرّاء الهجرة المعاكسة باتجاه الأرياف. وجميع هذه التحوّلات، ستترك آثارها الاستراتيجيّة لعقود قادمة.

أرقام مطار بيروت تشير إلى أنّ أعداد المغادرين عبر المطار قاربت هذا العام وحتّى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي حدود 1.79 مليون مغادر، فيما تجاوزت أعداد الوافدين مستوى الـ 1.67 مليون وافد. بمعنى آخر، تدل هذه الأرقام إلى أن أعداد الذين غادروا أو هاجروا لبنان باتجاه واحد قاربت مستوى الـ 120 ألف شخص خلال فترة زمنيّة لا تتجاوز 10 أشهر.

وهذا الرقم، يعكس تسارعا في وتيرة الهجرة من لبنان خلال السنة الحاليّة مقارنة بالأعوام السابقة. فخلال السنة الماضية، وعلى امتداد عام كامل، توقّف عدّاد المغادرين باتجاه واحد عند مستوى 113 ألف شخص. وخلال سنة 2019، لم يكن قد تجاوز هذا الرقم حدود الـ40 ألف شخص فقط.
بمعنى آخر، ومع تفاقم جميع تداعيات الأزمة الاقتصاديّة، كانت معدّلات الهجرة من لبنان تتصاعد بشكل سريع جدّاً بين عام وآخر. وفي حصيلة كل هذه الأرقام، يمكن القول إن نحو 273 ألف شخص غادروا البلاد نهائيّاً منذ عام 2019، بالتوازي مع حصول الانهيار المالي الذي تشهده البلاد اليوم.

من الناحية العمليّة، لطالما اعتمد المجتمع اللبناني ومنذ عقود على مبدأ تصدير الكفاءات العلميّة إلى الخارج، مقابل الاستفادة من تحويلها الماليّة من بلاد الاغتراب إلى النظام المالي.

لا بل من المعروف أن هذه التحويلات بالذات كانت أحد مصادر السيولة التي ساهمت بانتفاخ النظام المصرفي اللبناني، وتضخّمه إلى مستويات لا تتناسب مع حجم الاقتصاد المحلّي وقدرته على امتصاص سيولة المصارف.
ولهذا السبب بالتحديد، ومع حصول الانهيار المالي سنة 2019، كان خيار الهجرة متاحاً للكثير من الأسر اللبنانيّة، لكونها امتلكت تاريخيّاً علاقات عائليّة بالمغتربين الموجودين أساساً في الخارج، حيث ساهمت هذه العلاقات بتسهيل الاستقرار في الدول الأجنبيّة والعثور على فرص العمل. كما امتلكت الكثير من الأسر اللبنانيّة جنسيّات أجنبيّة، اكتسبتها بفضل إقامتها سابقاً في الخارج، وهو ما سهّل عليها أيضاً اللجوء إلى الهجرة.

لكن وبالرغم من اعتياد الأسر اللبنانيّة تاريخيّاً على خيار الهجرة، لم يحدث منذ عقود أن تسارعت وتيرة الهجرة من لبنان على النحو الذي حصل خلال العامين الماضيين. بل ويمكن القول أيضاً إن نوعيّة التداعيات الاجتماعيّة لموجة الهجرة الأخيرة، ستكون أقسى بأشواط من كل موجات الهجرة التي شهدتها البلاد سابقاً.

فبحسب أرقام الأمم المتحدة، تجاوزت نسبة المهاجرين من لبنان خلال هذا العام حدود الـ16.54 في الألف، مقارنة بنحو 12.52 في الألف خلال العام الماضي، و4.49 في الألف خلال العام 2019. وهذه الأرقام لم يسبق للبنان أن سجّلها منذ موجة الهجرة التي حصلت في أولى فترات الحرب الأهليّة سنة 1975.

بخلاف موجة الهجرة التي حصلت في بدايات الحرب، والتي نتجت عن التهجير القسري الذي طاول مناطق لبنانيّة عدّة، تحصل موجة الهجرة الحاليّة كنتيجة لأزمة اقتصاديّة، وليس كنتيجة لأحداث أمنيّة أو عسكريّة. ولهذا السبب بالتحديد، تتركّز موجة الهجرة التي يعيشها لبنان الآن في فئة الكوادر المؤهّلة التي تعمل في قطاعات حيويّة، والتي يرتفع الطلب عليها في أسواق العمل في الخارج. وهذه الفئة بالتحديد، هي التي امتلكت المرونة اللازمة لإيجاد فرص العمل في الأسواق الخارجيّة.

أرقام نقابة المهندسين في بيروت تشير إلى أن نحو نصف المهندسين المسجّلين في النقابة باتوا يعملون خارج البلاد، كنتيجة للأزمة الحاليّة التي أدّت إلى نقل مكاتب وشركات هندسة معروفة إلى الخارج.

في القطاع الصحّي، وبحسب أرقام نقابتي الأطباء والممرّضين، هناك نحو ألف طبيب وممرّض من الذين غادروا لبنان خلال العام الماضي، بفعل تدنّي قيمة رواتبهم المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، في مقابل ارتفاع الطلب على خدماتهم في الخارج بعد تفشّي وباء كورونا.

أما في القطاع التعليمي، فتشير أرقام الجامعة الأميركيّة في بيروت، أعرق جامعات العاصمة اللبنانيّة، إلى أن 12% من طاقمها التعليمي غادر لبنان خلال العام الماضي، بحثاً عن أجور أفضل في ظل تدهور القيمة الشرائيّة لرواتبهم. مع الإشارة إلى أن قطاع التعليم الجامعي سيكون الأكثر تضرراً خلال الفترة المقبلة، نظراً لوجود منافسة شرسة بين كبرى الجامعات المعروفة على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاستقطاب الأساتذة والباحثين في مختلف الجامعات.

باختصار، ما يخسره لبنان من موجة الهجرة الحاليّة هو الفئة القادرة على النهوض بأكثر قطاعاته حساسيّة. وإذا استمرّ تسارع وتيرة الهجرة باتجاه الخارج، فمن المرتقب أن تكون قطاعات الصحّة والتعليم والبناء وغيرها أمام أزمة فعليّة، في ظل فقدان الكوادر القادرة على تقديم خدماتها في هذه القطاعات. وخلال المرحلة الماضية، بدأت وسائل الإعلام تدق ناقوس الخطر اتجاه تفشّي ظاهرة الهجرة في أوساط العاملين في قطاعات أخرى، كالسلك القضائي والمحاماة والاتصالات وغيرها، وهو ما يشير إلى عمق الأزمة التي ستتجه إليها البلاد.

على أي حال، التحوّلات في بنية المجتمع اللبناني لم تقتصر على معدلات الهجرة وفقدان الكفاءات المؤهّلة في القطاعات الحسّاسة، بل شملت موجة من النزوح الداخلي باتجاه الأرياف.

وهذه الموجة لم تنتج من انتعاشة ما في القطاعات الزراعيّة والحرفيّة في الريف اللبناني، بل من غلاء المعيشة في المدينة ومعدلات التضخّم المرتفعة. فتقديرات الأمم المتحدة تشير اليوم إلى أن كلفة المعيشة على الأسر التي تقيم في المدن اللبنانيّة باتت تفوق بنسبة 30% كلفة المعيشة التي تتكبّدها الأسر في الأرياف، وهو ما يدفع شريحة واسعة من المقيمين إلى الانتقال إلى القرى للتمكّن من تغطية نفقاتهم اليوميّة.

ولهذا السبب بالتحديد، تشير الإحصاءات إلى أن نحو 77 ألف لبناني غادروا المدن باتجاه القرى، في ظاهرة نزوح معاكس يشهدها لبنان لأوّل مرّة في تاريخه. أما المسألة التي سرّعت من وتيرة هذا النوع من النزوح القسري، فكانت انتقال نحو ثلث الطبقة الوسطى التي اعتادت السكن في المدن إلى صفوف الفئات غير القادرة على تغطية نفقاتها اليوميّة، بفعل تراجع قيمة العملة المحليّة وتدنّي قيمة الرواتب الشرائيّة، وهو ما دفعها إلى البحث عن أنماط حياة مختلفة خارج المدن.

الهجرة نحو الريف، وخسارة الفئة الشابّة بفعل الهجرة، مجرّد نماذج من التحولات السريعة التي طرأت على لبنان كنتيجة لأزمته الماليّة، والتي تركت آثارها على جميع مفاصل الحياة في هذا البلد.

أمّا الإشكاليّة الأهم، فتكمن في تأثير هذه التطورات على المدى البعيد، وخصوصاً من جهة التداعيات الاقتصاديّة لخسارة لبنان شريحة واسعة من أصحاب الشهادات والمهارات القادرين على الإسهام في نهضة البلاد إذا دخلت مسار التعافي المالي.

المساهمون