عادت التوقعات العالمية لتحتل مكانة مهمة لدى الاقتصاديين والمحللين، بعدما تحوّل عنها الاهتمام بسبب شدة الحالة الوبائية الناجمة عن انتشار فيروس كوفيد- 19 وتحوّراته المختلفة.
ومع عودة التحورات ومنها دلتا وغيرها واستمرار خطر كورونا على الصحة العامة عادت دولٌ كثيرة إلى كبح الحريات، وتقليل فرص الحركة والتجمعات، وتحديد حركة التنقل والطيران، والسعي إلى إقناع المتشكّكين بضرورة الحرص على التباعد، ولبس الكمّامات، والأهم من ذلك كله الحصول على جرعتين أو أكثر من المطاعيم المخصصة لمكافحة هذا الفيروس.
ولكن صندوق النقد الدولي الذي رأى في تقلبات أسعار المعادن الثمينة (الذهب والبلاتين والفضة)، والأرقام القياسية لأسعار الأسهم والسندات في البورصات العالمية وأسواق المال، وفي أسعار العملات الرئيسية، خصوصا الدولار واليورو والريمبي الصيني، مصدر قلق.
ويجد الصندوق نفسه حائراً بشأن أهم التوصيات التي يمكن أن يقدّمها للدول، خصوصا في ما يتعلق بالسياسات النقدية، مثل تغيير سعر الفائدة، أو عرض النقد، أو استخدام عمليات السوق المفتوح لتقليل التقلبات في الأسعار واستقرارها عند مستويات معقولة.
وفي شهر إبريل/ نيسان الماضي تنبأ صندوق النقد الدولي بأن معدلات النمو العالمية للاقتصاد ستبلغ 6% خلال العام الجاري 2021، ولكنها سوف تعود إلى الانخفاض إلى 4.9% خلال العام المقبل 2022.
ولكن تقريره الصادر بعنوان "التوقعات الاقتصادية العالمية"، والمنشور في شهر يونيو/ حزيران من عام 2021، أبقى على التنبؤات العالمية خلال عام 2021 كما هي عند (6%)، ولكنه توقع ارتفاع نسب النمو في الدول الغنية الصناعية "فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية، كندا" بمقدار نصف نقطة مئوية، في وقتٍ قلل نسبة النمو المتوقعة في الدول الآسيوية الصاعدة (emerging economies) بنسبة نصف في المائة.
التنبؤات تتوقف على مكافحة الفيروس
ولكن صحة هذه التنبؤات المتعلقة بنمو الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة تعتمد كلها على ما يجري في مجال مكافحة فيروس كورونا وتحوراته، ولو نظرنا إلى قرارات الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، في الأسابيع الثلاثة الماضية، نراه قد شدّد الإجراءات ضد الموظفين الفيدراليين، وضد المقاولين والشركات الراغبة في الفوز بعطاءات الحكومة الإنشائية أو لتزويد المشتريات الحكومية.
وحيث إن الكونغرس قد أقرّ تريليونات الدولارات للإنفاق من الحكومة الفيدرالية على مشروعات البنى التحتية، ومساعدة العاطلين عن العمل، فإن هذه الإجراءات ستضطر الأفراد العاملين في الحكومة والحاصلين على دخل منها، للإقبال على المطاعيم واللقاحات، وكذلك موظفي الشركات الخاصة الراغبة في الفوز بعطاءات الحكومة المسيلة لِلُّعاب.
وفي المقابل، نرى أن دولاً أوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، تشهد مظاهرات من المحتجين على الإجراءات التضييقية الحكومية على حركة الناس، وتلك الهادفة إلى دفعهم لطلب الحصول على المطاعيم والتحصين ضد الفيروس.
والصين تسعى، بكل جهدها، إلى إبقاء عدد الإصابات فيها إلى الحد الأدنى الممكن، بل وتسعى إلى أن يكون عند الصفر حسب تصريحات رسمية. وعند بروز أي زيادة في الحالات أو الوفيات في أي مقاطعة صينية أو مدينة في أي مقاطعة، تسارع السلطات إلى فرض حجرٍ شديد على السكان لاحتواء الفيروس.
ولقد ثبت بالأدلة القاطعة بعد مرور أكثر من 19 شهراً على انفجار الجائحة الصحية أن معدّل النمو الاقتصادي في دول العالم مرتبط بمدى انتشارها وعدد الإصابات والوفيات.
حُمّى التنافس العالمي
التطعيم والحرص على التباعد الاجتماعي ولبس الكمامات يُمكِّن السلطات المسؤولة من الوصول إلى عتبة الثقة، بحيث تعلن الانفتاح الكامل.
ولكن حُمّى التنافس العالمي تجعل الدول غير قادرة على الانفتاح حيال كل الدول الشريكة لها في المبادلات الاقتصادية والتجارية، إذا كان بعضها لم يزل مصنفاً منطقة حمراء، ومن الخطورة السماح لمواطنيها بالانتقال إلى الدول المصنفة خضراء.
ومع أن الكل يرى ضرورة لاحتواء المرض دولياً، إلا أن بعض الأنانية والرغبة في تحقيق معدلات نمو أعلى تجعل احتمال التعاون على المستوى الدولي أقل إمكانيةً وأدنى فاعلية.
ونرى ذلك جلياً في إجراءات الترخيص للمطاعيم، أو في الإلحاح على تلقّي جرعة ثالثة إضافية من لقاح أو ماركة معينة، إذا كان المطعومان الأولان قد أُنتجا في الصين على سبيل المثال.
وعلى الرغم من كل هذه المحاذير، فإن صندوق النقد الدولي لا يزال متفائلاً بأن معدل نمو الاقتصاد الدولي لن يقل خلال هذا العام 2021 عن 6%. وذلك لأن الانفتاح الذي توقعه في النصف الثاني من العام الجاري سيُنتج رد فعل قوياً على جانب الطلب من الأفراد والحكومات والشركات، بعد فترة صيام زادت عن السنة.
ويتوقع صندوق النقد أن يكون هذا مدعوماً بارتفاع الأسعار، بسبب فجوة العرض الناتجة عن زيادة الطلب من ناحية، وبطء الإنتاج والعوائق في الشحن البحري والجوي من ناحية أخرى.
ومع هذا، لا يلحّ صندوق النقد الدولي على الدول الأعضاء التي ارتفعت فيها معدّلات النمو الاقتصادي والأسعار (التضخم) أن تسارع إلى رفع أسعار الفوائد على عملاتها المحلية، أو ضبط كمية عرض النقد بسرعة. والسبب أن الطلب سوف يعود إلى نمطه السابق خلال العام المقبل 2022، وأن الأسعار ومعدلات النمو ستقل عن 5%.
ولذلك صارت المؤشّرات النقدية تتأرجح، تبعاً لأسعار النفط في الأسواق العالمية، وإلى توقعات الناس قصيرة الأجل، والعوائد المتوقعة من الاستثمار على مختلف مكونات المحافظ المالية.
قد يعيد صندوق النقد الدولي تقديراته وتوقعاته في تقريره المقبل عن حالة الاقتصاد العالمي هذا العام، تبعاً لما يرى أنه قد جرى في أشهر الصيف الحالي.