بزنس شركات السلاح يلتهم ثروات الأمم بالحروب والنزاعات

09 يوليو 2024
مظليون أمام طائرة Lockheed C-130 Hercules في مطار شيربورغ، 5 يونيو 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

من الطبيعي جداً أن يكون مزاج المستهلكين وأهواؤهم الهدف الأول لحملات تسويق السلع والمنتجات التي تضطلع بها أي شركة تطمح إلى اقتحام الأسواق وتكبير حصتها في كعكة المبيعات، وبالتالي جني أكبر قدر ممكن من الأرباح، والمحافظة لاحقاً على نسب نمو تضمن بقاءها وازدهار أعمالها. غير أن هذه المقاربة لا تنطبق على شركات السلاح العالمية.

لك، مثلاً، أن تتخيّل عالَماً متصالحاً تماماً ومجتمعات تنعم برغد العيش والرفاهية مع نظم قضائية عادلة وشبكات أمان اجتماعي فاعلة، عندئذ سيبدو مضموناً أن موجة إفلاس واسعة النطاق ستضرب شركات السلاح المشغلة لمصانع البنادق والقاذفات والقنابل والدبابات والطائرات وغيرها من الآلة القاتلة المستخدمة في الحروب والنزاعات والجرائم ضد الإنسانية، على نسق ما يحدث من حرب دامية مدمرة بين روسيا وأوكرانيا، أو ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين منذ أكثر من تسعة أشهر، فضلاً عن اشتعال الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة مع حزب الله اللبناني، ويمكنك أن تسوق على ذلك أمثلة كثيرة.

هذه المقاربة تطرّقت إليها مجلة "إيكونوميست" (The Economist) البريطانية، الأحد، حيث لاحظت أن أعمال شركات السلاح ليست مثل بقية الأعمال، فهي منيعة أمام الاقتصاد الكلي ومحميّة من أذواق المستهلكين المتقلبة، وتتحدد آفاقها بعامل واحد، وهو مدى التهديد العسكري الذي يشعر به عملاؤها الحكوميون، مشيرة إلى أنه مع اشتعال الحروب في أوكرانيا وغزة، وحرب أخرى على شفا الهاوية بين إسرائيل ولبنان، مع ظهور بوادر لمناخات الصراع بين الصين وتايوان، ارتفع إلى مستوى عال من التهديدات، بينما تنطلق في واشنطن قمة قادة دول الناتو، اليوم الثلاثاء، على أن تستمر حتى الخميس.

بالأرقام.. في العام الماضي، أنفق أعضاء حلف شمال الأطلسي البالغ عددهم 32 دولة، 1.3 تريليون دولار على الدفاع، وهو رقم قياسي بعد التكيّف مع التضخم، على الأقل منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. فأميركا، وهي أكبر دولة منفقة على الإطلاق، خصصت ميزانية قدرها 842 مليار دولار هذا العام. أما الأوروبيون الأكثر ميلاً إلى السلام تاريخياً، والذين تخيفهم الدبابات الروسية الموجودة على عتبات أبوابهم، تجدهم يتراجعون عن عقود من شحّ إنفاق أدى إلى نقص الاستثمار المتراكم في المعدات تناهز قيمته 600 مليار دولار. هذا فيما يتوقع حلف شمال الأطلسي هذا العام، أن يحقق 18 عضواً هدف تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، مقارنة مع 3% عام 2014.

وليست كل هذه المبالغ مخصصة للآلة الحربية واللوجستية بطبيعة الحال، لأن هذه الأرقام تلحظ دفع أجور الجنود وتشغيل القواعد وصيانة المعدات. لكن في العام الماضي، تم إنفاق 28% من ميزانية الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي، أو حوالي 360 مليار دولار، على أنظمة الأسلحة والمركبات وغيرها من المعدات الرئيسية.

وكان ذلك أكثر من ضعف الحصة قبل 10 سنوات، بينما من المتوقع أن تستمر المبالغ في النمو. وفي هذا الصدد، يتوقع للمجلة تشارلز وودبورن، الرئيس التنفيذي لشركة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية المصنعة للمقاتلة "تايفون" وغيرها، ما يسمّيه "مساراً طويلاً من زيادة الإنفاق الدفاعي"، وكل ذلك يصب في مصلحة شركات السلاح في نهاية المطاف.

وهذا يبدو أشبه بمنجم ثروة في طور التكوين بالنسبة لشركات الأسلحة، خاصة للمقاولين الأميركيين "الرئيسيين" المتمركزين في قلب المجمع الصناعي العسكري. ذلك أن شركات السلاح الأميركية العملاقة مثل "لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin) و"أر تي إكس" (RTX) و"نورثروب غرامان" (Northrop Grumman) تتفوق على منافسيها الأوروبيين من حيث المبيعات، علماً أن نصيب الأسد من مبلغ 315 مليار دولار يخطط البنتاغون لإنفاقه على المشتريات والبحث والتطوير هذا العام سيصب في جيوبهم في نهاية المطاف. وقد حققت "لوكهيد" وحدها مبيعات بلغت 68 مليار دولار العام الماضي.

والملاحظ أن القيمة السوقية لكيانات شركات السلاح لم ترتفع إلا بالكاد منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث كان أداء "لوكهيد" و"أر تي إكس" و"نورثروب" أسوأ من الأداء العام لمؤشر "ستاندرد أند بورز 500" للشركات الأميركية الكبرى، والذي تفوّقت عليه لعقود من الزمن، حتى مع تحوّل نظيراتها الأوروبية إلى ازدهار قوي.

فقد ارتفع سعر سهم شركة "تاليس" (Thales) الفرنسية بنسبة 86% خلال هذه الفترة، كما تضاعفت قيمة "باي" (BAE). أما شركة "راينميتال" (Rheinmetall) الألمانية فقد تضاعفت قيمتها أكثر من 5 مرات. كذلك، ضاقت الفجوة القديمة بين تقييمات شركات تصنيع الأسلحة الأميركية والأوروبية التي تُقاس كنسبة من القيمة السوقية، مضافاً إليها صافي الدين إلى إجمالي أرباح التشغيل، وفقاً لاستنتاج جورج تشاو، من شركة الوساطة "بيرنشتاين" (Bernstein).

تجدر الإشارة إلى أنه بعد الحرب الباردة، تضاءلت ميزانيات الدفاع الغربية، وجرى تعليق قرارات الشراء، وقلصت الشركات عملياتها الإنتاجية. ثم في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تحوّلت أولويات أميركا إلى مكافحة الإرهاب، ما أدى إلى انخفاض بطيء في تصنيع المعدات. ولاحقاً، حوّل التوتر الصيني في المحيط الهادئ التركيز الاستراتيجي الأميركي بعيداً من الأنظمة البرية، مثل المركبات المدرعة، بينما لم يُفكّر أحد في إضافة القدرة على إمداد أوروبا في أي حرب برية.

أما استعادة هذه القدرة فتتطلب سنوات، وفقاً لمجلة "إيكونوميست" التي تعتقد أن هذا لن يحدث إلا إذا أمكن ضمان استمرار الطلب على منتجات الشركات. وفي هذا السياق، يوضح وودبورن، من شركة "باي"، أن شركات الدفاع تحتاج إلى "حالة تجارية معقولة لوضع الميزانية العمومية في مكانها الصحيح". وهذه الحجة التجارية، حتى الآن، أكثر وضوحاً في أوروبا منها في أميركا. إذ قبل عام، أبرمت "باي" صفقة لتجديد مخزون الجيش البريطاني من قذائف المدفعية. والشهر الماضي، فازت "راينميتال" بعقد شراء ذخائر من الحكومة الألمانية بقيمة 8.5 مليارات يورو.

في جانب آخر، لا تكاد تشهد نمواً الميزانية العسكرية الأميركية الضخمة، ومن الممكن أن يؤدي قانون المسؤولية المالية المقرّ العام الماضي، إلى تجميد الإنفاق بالقيمة الحقيقية حتى عام 2033. كما من المتوقع أن تنخفض المشتريات والبحث والتطوير العام المقبل. وفي إبريل، حذرت الرئيسة التنفيذية لشركة "نورثروب غرومان"، كاثي واردن، من "تباطؤ نمو الإيرادات الإجمالية" في الإنفاق الدفاعي الأميركي على المدى القصير. وقد نمت مبيعات "لوكهيد" العام الماضي، بنسبة ضئيلة بلغت 0.8% بالقيمة الاسمية، مقارنة بعام 2021.

وتجتمع الطرق الجديدة المقتصدة لوزارة الدفاع الأميركية مع تركيز جديد على الأنظمة الذكية الأكثر رشاقة على دبابات القتال الرئيسية والغواصات النووية والمقاتلات الشبح وما شاكل ذلك. وهذا المزيج بدوره يجذب المنافسة في سوق تراجع فيه نسبياً وضع مقاولي "المدرسة القديمة".

حول هذه النقطة، يقول بالمر لوكي، الرئيس التنفيذي في "أندوريل" (Anduril)، وهي شركة ناشئة عمرها سبع سنوات في وادي السيليكون تصنع طائرات بدون طيار مستقلة وأنظمة أخرى تعتمد على البرمجيات، إن البنتاغون يحتضن أخيراً شركات الدفاع "غير التقليدية". ويمكن لهذه الشركة الآن التنافس على أي عقد دفاعي تقريباً من خلال تعريض رأسمالها للخطر. وهو يعتقد أنها لم تعد بحاجة إلى توظيف عدد من جماعات الضغط أكثر من المهندسين من أجل الفوز بالصفقات الحكومية.

وقد برز أهم انتصار أحرزته "أندوريل" في إبريل الماضي، عندما تغلبت بالتنسيق مع "جنرال أتوميكس" (General Atomics)، وهي شركة تصنيع أسلحة جديدة، على "بوينغ" و"لوكهيد مارتن" و"نورثروب غرومان"، في مسابقة لتطوير "الطائرة القتالية التعاونية" (Collaborative Combat Aircraft) ذاتية الطيران لصالح القوات الجوية الأميركية.

في غضون ذلك، يحقق وافدون جدد انتصارات في سوق الدفاع الأميركي. ففي مارس/ آذار الماضي، اختار الجيش "بالانتير" (Palantir)، وهي شركة تكنولوجيا ناشئة لتطوير شاحنة عملاقة مليئة بالبرمجيات لمعالجة بيانات ساحة المعركة. وفي الشهر التالي، اختيرت الشركة الناشئة "سييرا نيفادا" (Sierra Nevada) بدل "بوينغ" للحصول على عقد بقيمة 13 مليار دولار لتصنيع ما يحل محل طائرة "يوم القيامة" E-4B التي يمكن أن تكون مركز قيادة جوياً للرئيس وكبار الضباط في حالة وقوع هجوم نووي.

المساهمون