بريكست جاهز للتوقيع... اتفاق تاريخي يضمن السيادة البريطانية والتجارة الحرة

24 ديسمبر 2020
بوريس جونسون خرج رابحاً من أكبر مغامرة في تاريخ بريطانيا (فرانس برس)
+ الخط -

بعد عام قاسٍ على بريطانيا، عانت فيه المملكة المتحدة من تفشي السلالة الجديدة لفيروس كوفيد 19 وتداعياتها، ومفاوضات مرهقة امتدت لأكثر من 4 سنوات، توصّل المفاوضون الأوروبيون والبريطانيون إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد "بريكست" اليوم الخميس، وفق ما أفاد مسؤولون من الجانبين.

فقد قال متحدث باسم الحكومة البريطانية إنه "تمّ الاتفاق"، ليحافظ الجنيه الإسترليني على مكاسبه قرب أعلى مستوياته في عامين ونصف، بعدما قالت لندن إنها توصلت إلى الاتفاق. وارتفع الإسترليني 0.8% بعد تأكيد الاتفاق مسجلاً 1.361 دولار، أي أقل قليلا من مستويات الذروة المسجلة في مايو/ أيار 2018.

وبهذا الاتفاق المربح بالنسبة إلى الاقتصاد البريطاني من وجهة نظر مسؤولين بريطانيين، نجت العملة البريطانية من مجزرة محققة كانت تنتظرها في حال عدم التوصل إلى اتفاق تجاري مع الكتلة الأوروبية. 

وحلّق الجنيه الإسترليني فوق 1.36 دولار، وقد يرتفع سعره أكثر في العام الجديد، مقترباً من مستوى 1.48 دولار الذي كان عليه قبل استفتاء بريكست في عام 2016. لكن كريس تيرنر، الخبير بشركة "أي أن جي" المالية الهولندية، يعتقد أن الإسترليني سيرتفع بمعدلات متواضعة في الشهور المقبلة، وربما إلى 1.38 دولار. 

وكان من الممكن إعلان الاتفاق مساء الأربعاء، حسب تأكيدات مسؤولين بريطانيين وأوروبيين، إلا أنه تأجل بسبب الخلاف الذي حدث في اللحظات الأخيرة بشأن موضوع بطاريات السيارات الكهربائية، وهي قضية صغيرة، لكن التحول الجاري في قطاع تصنيع السيارات يجعل منه موضوعاً مهماً خلال السنوات المقبلة.

وقال مصدر في الحكومة الفرنسية الخميس، إن البريطانيين قدموا "تنازلات هائلة"، ولا سيما في مجال صيد السمك، حجر العثرة الأخير في المفاوضات. 

وحسب خبراء، يعكف الخبراء القانونيون من الجانب البريطاني والأوروبي منذ مساء الأربعاء على وضع اللمسات الأخيرة للاتفاق المكون من 2000 ورقة الذي من المتوقع أن تكون نصوصه قد ضمنت السيادة البريطانية على أراضيها وقوانينها، وفي ذات الوقت تتمكن فيه من مرور السلع والخدمات من أوروبا وإليها دون جمارك أو رسوم.

ويقدَّر حجم التجارة بين بريطانيا والكتلة الأوروبية بنحو ترليون دولار، والكتلة الأوروبية هي الشريك التجاري الأول لبريطانيا. وتُعَدّ الترتيبات التجارية التي تضمن حرية التجارة مع أوروبا، جائزة ثمينة لبريطانيا في بناء الفضاء التجاري الجديد بعد الانفصال رسمياً عن أوروبا في بداية العام الجاري. وكانت بريطانيا قد وقّعت مجموعة من الشراكات التجارية في إطار بناء الفضاء التجاري الجديد لفترة ما بعد بريكست. 

من بين هذه الشراكات، شراكة تجارية مع اليابان وكندا وسنغافورة. ومن المتوقع أن يساهم اتفاق بريكست في تعزيز موقف بريطانيا في المناقشات التجارية المقبلة لتوقيع الشراكة التجارية مع أميركا. 

وتُعَدّ الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لبريطانيا، كذلك  يستضيف حيّ المال البريطاني معظم المصارف التجارية الكبرى مثل "غولدمان ساكس" و" جي بي مورغان "وسيتي بانك". وهذه البنوك تتخذ من لندن مقراً لها في التجارة وتقديم خدماتها لدول الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من أن الاتفاق ضمن حرية التجارة البينية دون حواجز جمركية ورسوم، إلا أنه لم يشمل الخدمات المالية التي تعتمد عليها مصارف وشركات الوساطة بحيّ المال البريطاني "سيتي أوف لندن".

وبالتالي، يرى محللون وخبراء ماليون أن الاتفاق   يُعَدّ نقطة ارتكاز رئيسية في العلاقات المستقبلية بين إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن وبريطانيا، كذلك فإنه سيدعم موقع مركز لندن المالي بسبب جاذبية المصارف الاستثمارية الأميركية وأهميتها بالنسبة إلى التمويلات الأوروبية.

في هذا الشأن، قال الخبير مارشال غيتلر في شركة "دي بي سويس" السويسرية في تعليقات نقلها موقع مجلة "بارونز" الأميركية، إنّ "نجاح اتفاق بريكست يُعَدّ أمراً مهماً جداً لعلاقات بريطانيا المستقبلية مع الولايات المتحدة، إذ إن بايدن قال بوضوح تام إن عدم توقيع اتفاق بريطاني مع دول الاتحاد الأوروبي بعد الانفصال سيدمر العلاقات الخاصة بين واشنطن ولندن، كذلك سيهدد اتفاق الشراكة التجارية مع بريطانيا".

كما ستعزز الترتيبات التجارية التي اتُّفِق عليها، مركز بريطانيا التفاوضي في الشراكات التجارية المقبلة الجاري التفاوض حولها مع كل من الهند وأستراليا. 

وعلى الرغم من أن الاتفاق لم يشمل الخدمات المالية ولم يضمن "جواز المرور التجاري" لمصارف حيّ المال البريطاني ولكن ذلك قد لا يؤثر كثيراً في  مركز لندن المالي.

وحتى الآن لم تحدث الهجرة الجماعية التي كانت متوقعة في قطاع الخدمات المالية من بريطانيا إلى الدول الأوروبية خلال فترات تعثّر المفاوضات وذروة الخلاف واحتمال خروج بريطانيا دون اتفاق تجاري.

في هذا الصدد، قال الاقتصادي في مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية، فنسان فيكار: "لا يبدو أن مستقبل حيّ المال اللندني موضع تساؤل على المدى القصير، لأنه لا يوجد مركز مالي جديد ناشئ في أوروبا ينافسه حتى الآن".

وأشار في تعليقات نقلتها نشرة "يورو نيوز" إلى أن عمليات نقل نحو 7500 وظيفة مالية من لندن إلى القارة الأوروبية وفقاً لبيانات شركة "إرنست أند يونغ" إلى العديد من المراكز المالية، في إيرلندا وفرنسا وألمانيا وهولندا ولوكسمبورغ، وهذه لن تؤثر على مكانة حيّ المال، "لندن سيتي" بموظفيها البالغ عددهم 450 ألفاً.

ووفق محللين ماليين، فإن اتفاق بريكست قد يكون ذا تأثير في السوقين البريطاني والأوروبي وأسواق المال على المدى القصير، ولكن هنالك عوامل أخرى أكبر منه هي التي تعتمد عليها توجهات الأسواق، ومن بينها محاصرة جائحة كورونا وخروج الاقتصاد العالمي من الركود.

في هذا الصدد، قال المحلل المالي الأميركي، جي جي كينهان: "على المدى القصير فإن اتفاق بريكست نبأ عظيم للأسواق المالية، ولكن على المدى الطويل فإن تأثيره يعتمد على تطبيق الاتفاق".

ولا يستبعد محللون أن تبرز خلافات في التطبيق يحتاج فيها الطرفان إلى المحاكم التجارية للبتّ فيها في المستقبل، خاصة ما يخص قضايا المنافسة والمعايير التجارية. 

وتتخوف أوروبا من تحوّل بريطانيا إلى سوق حرة بعد الانفصال، وتؤثر بذلك في تدفق رأس المال الأجنبي إلى أوروبا. وتخطط بريطانيا وفقاً لحكومة جونسون لإنشاء عشر مناطق تجارة حرة في المقاطعات البريطانية الفقيرة.

لكن على صعيد تأثيرات الاتفاق البريطاني الأوروبي على أسواق المال، لم يكن التأثير كبيراً بسبب الإغلاق المبكر للأسواق وإغلاق الحسابات الختامية للعام الجاري لكبار المستثمرين. 

وعلى الرغم من ذلك، فإن التفاؤل الذي ساد في الفترة الصباحية ساهم في ارتفاع شهية المخاطرة لدى المستثمرين. وفي تعاملات ضعيفة انتهت في منتصف نهار الخميس، خسر مؤشر "فاينانشال تايمز 250"، نحو 0.2%، ولكن ارتفعت أسعار السندات السيادية البريطانية، إذ إن الاتفاق رفع جاذبيتها.

وكان المستثمرون في أدوات الدين البريطاني يتخوفون من أن يقود خروج بريطانيا دون اتفاق إلى خفض نسبة الفائدة على الجنيه الإسترليني وزيادة حجم المديونية البريطانية، وبالتالي تراجع العائد المتحقق من استثماراتهم. 

ومن الناحية العملية، أخذت الأسواق توقيع اتفاق بريكست في حساباتها  منذ الأسبوع الماضي. ومعظم المكاسب التي تحققت من الاتفاق كانت في يوم الأربعاء، إذ سجلت الأسواق ارتفاعاً،

كذلك، كسبت أسعار النفط وارتفعت السندات، إذ إنها، حسب رويترز، تلقت دعماً من أنباء عن أن بريطانيا والاتحاد الأوروبي على وشك إبرام اتفاق تجاري وتجنب نهاية فوضوية لانفصالهما. لكن تركيز المستثمرين قد ينصب خلال العام الجديد على نجاح اللقاحات المضادة لفيروس كورونا وفك الاقتصادات البريطانية والأوروبية من إجراءات العزل الاجتماعي وإغلاق المتاجر. 

في هذا الصدد، قال ساتورو يوشيدا، محلل السلع الأولية لدى راكوتين للأوراق المالية لرويترز: "تحسن الإقبال على المخاطرة بين المستثمرين بسبب انتعاش في الأسهم العالمية، ما يؤكد أن المخاوف من السلالة الجديدة من فيروس كورونا انحسرت قليلاً".

يُذكر أن مفاوضات بريكست وصلت إلى ذروات خطرة، هددت أكثر من مرة بخروج بريطانيا دون اتفاق تجاري، خاصة وسط التشجيع الذي كان يحصل عليه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون من الرئيس دونالد ترامب.

المساهمون